في الليلة الثالثة من الدورة 66 لمهرجان سوسة الدولي، أضاءت المسرحية التونسية “بيغ بوسا” مسرح الهواء الطلق بسيدي الظاهر بأداء مبهر للفنانة وجيهة الجندوبي. هذا العرض، الذي ينتمي إلى أسلوب “وان وومن شو”، لم يكن مجرد مسرحية كوميدية، بل تجربة فنية عميقة تجمع بين السخرية اللاذعة والنقد الاجتماعي الحاد، مقدمة رحلة ممتعة للجمهور من ضحكات صاخبة إلى تأملات جادة.
قصة جليلة: من المكتب إلى كرسي الوزارة
تدور أحداث “بيغ بوسا”، التي كتبتها وأخرجتها وجيهة الجندوبي، حول جليلة، موظفة بسيطة تعمل في صندوق اجتماعي، غارقة في روتين يومي ممل. لكن حياتها تنقلب رأسًا على عقب عندما تتلقى مكالمة هاتفية غامضة في الرابعة فجرًا تعينها وزيرة. من هنا، تنطلق رحلة جليلة المضحكة والمحبطة أحيانًا، حيث تواجه الفساد الإداري، المحسوبية، واستغلال النفوذ في عالم السياسة. المسرحية، بأسلوبها الكوميدي الأسود، تعكس واقعًا اجتماعيًا وسياسيًا مؤلمًا في تونس والمنطقة العربية، معتمدة على مواقف مبالغ فيها لكنها صادقة بشكل مدهش.
وجيهة الجندوبي: عبقرية متعددة الأوجه
تألقت وجيهة الجندوبي في تجسيد شخصية جليلة، حيث انتقلت بسلاسة بين لحظات الكوميديا المرحة والعمق العاطفي. أداؤها المسرحي، المعزز بمهارة الارتجال، منح كل عرض طابعا فريدا مع الحفاظ على جوهر النص. كمخرجة، قدمت الجندوبي رؤية واضحة من خلال ديكور بسيط يعتمد على عناصر رمزية تُعرض عبر شاشة خلفية، إلى جانب موسيقى ومؤثرات صوتية دقيقة عززت الأجواء دون أن تطغى على الأداء.
نقد اجتماعي بغلاف كوميدي
ما يجعل “بيغ بوسا” استثنائية هو قدرتها على تقديم نقد اجتماعي وسياسي لاذع دون التضحية بروح الدعابة. من خلال قصة جليلة، تكشف المسرحية عن تناقضات النظام الإداري والسياسي، حيث يمكن للصدفة أو العلاقات أن ترفع أحدهم إلى مناصب عليا. المشاهد المصورة، التي تتخلل العرض، تضيف بُعدا بصريا يبرز التغيرات في حياة جليلة، مع لمسات ساخرة تعكس تحولات سلوكها وعلاقاتها.
رسالة وطنية مؤثرة
في ختام العرض، تأتي رسالة المسرحية الأقوى: “البلاد تحب شكون يحبها وتحب شكون يخدمها”. هذه العبارة ليست مجرد شعار، بل دعوة للتفكير في المسؤولية الوطنية والعمل من أجل الوطن بعيدًا عن المصالح الشخصية. هذه الرسالة، المقدمة بأسلوب خفيف ومؤثر، تركت أثرًا عميقًا في نفوس الجمهور.
استقبال حار وتأثير دائم
حظيت “بيغ بوسا” بإشادة واسعة من النقاد والجمهور منذ عرضها الأول. رغم غيابها المؤقت، عادت المسرحية لتجد جمهورها الذي حضر بأعداد محترمة، متفاعلا بحماس مع كل لحظة. وجيهة الجندوبي، التي حافظت على النص الأصلي مع بعض التجديدات، أكدت أن المسرحية لا تزال تعبر عن ظواهر اجتماعية يعناني منها المجتمع التونسي، مما يجعلها عملا فنيا خالدا.
“بيغ بوسا” ليست مجرد مسرحية، بل مرآة تعكس تناقضات المجتمع وتحث على التأمل في قيم النزاهة والمسؤولية. بفضل براعة وجيهة الجندوبي، يبقى هذا العرض تجربة فنية ممتعة وملهمة تستحق الإشادة.
بشير حسني
شارك رأيك