حدث ذلك يوم الثلاثاء 22 جويلية 2025 في قصر قرطاج و في بضع دقائق فقط، لكن تلك الدقائق لا بدّ أن تُدوَّن في مكان ما. في كتاب التاريخ، ربما. أو في ذاكرة أولئك الذين ما زالوا يميزون بين الشجاعة والمحاباة. الرئيس التونسي، قيس سعيّد، استقبل مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط و شمال أفريقيا، مسعد بولوص، ولم ينتظر البروتوكولات المعتادة، ولا المجاملات الدبلوماسية المصقولة. فما إن بدأ اللقاء، وهو واقف أمام محاوره، حتى أخرج مجموعة من الصور. صور ملوّنة، لكن اللون هنا ليس للزينة، بل هو لون الدم، والغبار، والمعاناة… في غزة.
خميس الغربي *

لم يعرض مناظر طبيعية، بل رفع صور شعب معذّب: أطفال يتضوّرون جوعًا، طفلة تأكل الرمال، وجوه شوهها الجوع والخوف. قال له : « أظن أنكم تعرفون هذه الصور جيدًا ». ثم، معلقًا على كل صورة، ندّد بجريمة وصفها بأنها «جريمة ضد الإنسانية جمعاء»، ودعا إلى وضع حد لها، وإلى أن «تستفيق الإنسانية بأسرها».
أمام هذا المشهد، وجد المبعوث الأميركي نفسه في مرمى محاكمة بصرية قاسية، لا صراخ فيها، ولا خطب رنانة، بل قوة مجردة من الزيف، تنبع من صدق الصور ووضوح الكلمات. لم يكن ذلك مجرّد تصرف عابر. بل جرأة نادرة في عالم الدبلوماسية المخملي. صفعة صامتة وُجّهت باسم أطفال غزّة.
حقيقة إبادة تُنفّذ على مرأى من العالم
فما عُرض لم يكن مجرد صور. بل حقيقة مؤلمة، يخفيها كثيرون، ويلفها آخرون في عبارات مموّهة: حقيقة إبادة تُنفّذ على مرأى من العالم، بدعمٍ مباشر من الحليف العسكري والسياسي الأبرز لإسرائيل: الولايات المتحدة الأميركية.
هذا المشهد، الذي لم يشهد له العالم العربي مثيلًا في تاريخه المعاصر، يذكّرنا بلحظات نادرة من الشجاعة السياسية. نستحضر فيها خطاب باتريس لومومبا في وجه الملك بودوان سنة 1960 : «مابين العبودية والحرية، لا يوجد حل وسط». ونسمع فيها صدى صوت مارتن لوثر كينغ وهو يحلم، في وجه التمييز العنصري في امريكا آنذاك.
واليوم، ها هو رئيسٌ عربي، بلا جيش غازٍ، ولا دعم عربي واسع، يرفع الكلمة الحرة. بالصور، بالكرامة، بالحقيقة العارية.
يمكن للضمير أن يكون سلاحًا أقوى
لقد أثبت بهذا الموقف أن العظمة لا تُقاس بحجم مساحة الأوطان، وأن الشجاعة لا تُقاس بعدد الحلفاء. وأنه في غياب السلاح، يمكن للضمير أن يكون سلاحًا أقوى — إذا وُجِّه نحو ضمير العالم.
ففي هذا العصر المزدحم بالصور، قد تتحوّل صورة واحدة إلى سلاح. لا للقتل، بل للكشف. سلاح يهزّ، ويتّهم، ويوقظ.
وإلى كل من يتحدّى الخوف، والتهديد، والعزلة، من أجل الدفاع عن كرامة الإنسان، وفضح الظلم، دون أن يخشى على نفسه أو منصبه — إليهم جميعًا، نرفع تحية امتنان خالصة. لأن أمثالهم وحدهم، هم من يحولون دون سقوط هذا العالم بالكامل في الظلام.
كاتب و مترجم.
شارك رأيك