الاقتصاد التونسي قيادة مناضلة تحت وصاية مؤسسات النقد خارجيا و الإدارة واللوبيات داخليا… وقطاعاتنا الحقيقية تُدفن بصمت و منها قطاع النقل البحري الذي أضاعت بلادنا فرصة تطويره وهي تقع في قلب البحر المتوسط بين عدد من أهم الأقطاب الاقتصادية.
مازن حسن *
عملت سنوات داخل تراب الوطن و خارجه في قطاع البحرية التجارية، أتحدث اليوم من تجربة محترمة و مقارنات شهدتها و عايشتها مع دول أخرى. تونس تضيع فرصة ذهبية كانت يمكن أن تكون قاطرة اقتصادنا: النقل البحري.
دول كثيرة نجحت بالمراهنة على البحر و من بينها اليونان التي تمتلك أقوى أسطول تجاري في العالم، يساهم بنحو 7% من الناتج القومي ويشغّل أكثر من 200 ألف شخص .
كوريا الجنوبية انتقلت من دولة فقيرة إلى رائدة في بناء السفن (مثل Hyundai Heavy Industries)، وقطاع النقل البحري يحقق عشرات المليارات سنويًّا.
سنغافورة، رغم صغر حجمها، تحولت إلى قوة اقتصادية بفضل موانئها واستراتيجيتها البحرية.
هاجس الشعب التونسي الأول هو التشغيل أو الهجرة نحو دول أخرى و من يعلم ان قطاع البحرية التجارية يوفر الخيارين.
الفيليبين دولة بالنسبة لنا توفر معينات منزليات لدول الخليج. إليكم في ما يلي تحليل معمق لتجربة الفليبين التشغيلية في قطاع البحرية.
السياسات والآليات التي اعتمدتها الفلبين:
1. الدعم الحكومي والتشريعات: إنشاء إدارة شؤون البحّارة (Philippine Overseas Employment Administration – POEA) لضمان تدريب وتأهيل ومتابعة أوضاع البحارة. مع تقنين العلاقة بين البحارة وشركات الشحن من خلال عقود عمل موحدة ومعترف بها دوليًا. بالإضافة إلى توقيع اتفاقيات مع دول وشركات ملاحة لتسهيل توظيف الفلبينيين.
2. التعليم والتدريب البحري بإنشاء أكاديميات بحرية معتمدة مثل الأكاديمية البحرية الفلبينية (Philippine Merchant Marine Academy – PMMA). و تطبيق معايير التدريب والاعتماد الدولية (STCW – Standards of Training, Certification, and Watchkeeping). و تحديث مناهج التدريب بما يتماشى مع التكنولوجيا الحديثة ومتطلبات السفن الدولية.
3. دور القطاع الخاص: شركات توظيف بحرية متخصصة تلعب دور الوسيط بين البحّارة وشركات الشحن. مع تنامي عدد شركات التدريب والاعتماد الخاصة التي تُخرّج آلاف البحّارة سنويًا.
4. دور التحويلات المالية (remittances): البحّارة الفلبينيون يُحوّلون سنويًا مليارات الدولارات، ما يجعلهم مساهمين أساسيين في الاقتصاد الوطني.
5. تحفيز الحكومة لتوفير خدمات مصرفية ومزايا خاصة لعائلات البحارة.
تونس، بموقعها الاستراتيجي وشبابها المتعلم وكفاءاتها البحرية، لم تحظَ بتطوير حقيقي لهذا القطاع. الموانئ مختنقة، البنية التحتية تستحق نقلة نوعية نحو المردودية، ولا توجد استراتيجية وطنية للنقل البحري. في حين أن البحر هو فرصتنا الحقيقية.
مثل هذه الإصلاحات تطلب من السلطة ضخ أموال ضخمة الى جانب استراتيجيات واضحة. ما يحيلنا على صعوبة تمويل المشاريع في ظل صراع مع مؤسسات النقد العالمية التي تريد إخضاع التونسيين قادة و شعبا. و تحارب كل توجه نحو نمو مستدام و اقتصاد صلب.
تركّز “إصلاحات” مؤسسات النقد العالمية على خفض الدعم، وتقليص الإنفاق، وخوصصة واستهداف القطاع العمومي، بينما الإنتاج المحلي يتعرّض للتهميش. الفلاحة تمثل حوالي 9.5% من الناتج، والصناعة تقلّصت إلى نحو 20%، لكن النقل البحري غائب تماماً من هذه المعادلة.
لماذا؟ اتعتقدون انهم ينسون هيمنة قرطاج على المتوسط؟ أول الإيالات التونسية التي فرضت ضريبة مرور على كل سفن العالم؟ نحن فقط من ننسى من نحن.
تونس فقدت سيادتها الاقتصادية حين توجهت السلطة للتداين الخارجي. الآن توجه الحكومة نحو تقليص الدين لكن هذا ينجر عنه محافظة على العملة الصعبة أحيانا على حساب توريد مواد أساسية و أحيان أخرى على حساب مشاريع كبرى. لهذا يجب التوجه الآن لتثمين و إصلاح القطاعات الكبرى التي لطالما كانت تونس عبر كل العصور مهيمنة عليها كلها و بموارد ذاتية، بصفة أوضح الحلول الحقيقية توجد أمامنا: البحر، الأرض، والعقل التونسي.
* ضابط بحرية.
شارك رأيك