صدرت مؤخرا، عن مطبعة سمباكت، النسخة صفر من الكتاب الثالث للمحامي والمسؤول السامي في جهازَيْ الحزب والدولة زمن بورقيبة، الأستاذ عبد السّلام القلاّل بعنوان: «الحلم الأخير: تونس إلى أين؟»، تقديم الدكتور حمّادي بن جاء بالله. ورغم وجود غالبية عمّال المطابع في عطلة سنوية، فقد كان حرص المؤلّف أن يتصفّح ثمرة جهوده التي امتدّت على أكثر من أربع سنوات، عشية ذكرى عزيزة عليه وعلى الكثير من التونسيّين، ألا وهي ميلاد والده الروحيّ في الكفاح الوطنيّ والبناء والتشييد وزميله في مهنة المحاماة وأول رئيس للجمهورية التونسية وصديقه، الزعيم والأستاذ الحبيب بورقيبة يوم 3 أوت، في انتظار خروج الكتاب للعموم وتوزيعه داخل وخارج تونس في مطلع شهر سبتمبر القادم. (الصور من أرشيف المؤلف و يظهر فيها صحبة الرئيس الحبيب بورقيبة).
أ.د عادل بن يوسف *

جاء الكتاب الذي شرّفني سي عبد السلام بتدقيقه ومراجعته وإثرائه بقائمة مطوّلة من المراجع المتصلة بتاريخ تونس المعاصر والزمن الراهن – كما سبق له أن شرّفني يوم 3 أوت 2022 بتقديم كتابَيْهِ السابقيْنِ بقصر بلدية المنستير بحضور السيّد الوالي وإطارات ومسؤولي ومناضلي الجهة – في طبعة أنيقة أُعدّت بالأنامل الذهبية للفنّان القدير والمصفّف المحترف للكتب والمنشورات، الصديق توفيق ساسي، ضمّت 467 صفحة من القطع المتوسط موزّعة بين: إهداء “للأجيال القادمة حتى تعمل من أجل تحقيق ما فشل في تحقيقه جيل الاستقلال من جعلِ تونس في مصاف الدول الصاعدة” ومقتطف من خطابه بعنوان: “من استشراف الزعيم الحبيب بورقيبة”، ألقاه يوم 29 جانفي 1984، جاء فيها ما يلي: «… تركت تونس بعد أن بذرتُ فيها بذور الحداثة والتقدّم والنماء وحبّ الوطن، لتزدهر جيلا بعد جيل وليتواصل نموّها وتتجاوز كلّ الصعوبات والمحن التي يمكن أن تعترضها، وأنا على يقين أنّه سيأتي اليوم الذي تسعى فيه فئة قليلة من المغامرين إلى نشر بذور الجهل والتخلّف والرجعيّة لكنّني متأكّد ومطمئنّ أنّهم لن ينجحوا ولن يحصدوا زرعهم، لأن الأرض التي أنبتت ورودا لا تنبت الأشواك من جديد…».
أمّا التقديم فكان أنيقا وبليغا، بقلم الصديق والزميل القدير للدكتور حمّادي بن جاء بالله (6 صفحات)، انتقينا لكم أهمّ ما جاء فيه: «… وللقارئ أن يلمس ما في حديث الأستاذ عبد السّلام عن حكم ”الإسلام السياسي” واللفيف المتصدي معه، من الدقّة والشمول بحيث نلمس فيه – في آن واحد – موضوعية الشاهد، ونفس الوطنيّ، هويّة راسخة وهوى عاشقا. فهو يوقفنا على ما يتهدد الوجود الوطني – حتى اليوم – من مكر لا سبيل إلى رده إلا بوقفة التونسيّين الخلّص لحماية وطنهم، منظمات مهنية، وجمعيات مدنية وأحزابا سياسية، يتقدمهم الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والاتحاد الوطني للمرأة التونسية، في مجرى إحياء جذوة الوحدة الوطنية التي حرّرتنا أمس من الاستعمار الخارجي، وهي كفيلة اليوم بتحريرنا من الاستعمار الداخلي…».

أمّا متن الكتاب فقد ورد في سبعة أبواب (بين فصلين وثلاثة فصول لكل باب)، موزعة كرنولوجيّا وفق “نظام عشريّ”، منذ مطلع استقلال تونس سنة 1956، إلى غاية سنة 2021 وهي تباعا:
– الباب الأول: «عشريّتَا التحرير من الاستعمار وبناء الدولة والتنمية الشاملة: الخمسينات والستينات من 1956 إلى 1969 ».
– الباب الثاني: «عشريّتَا النظام الليبرالي والصراع على الخلافة: السبعينات والثمانينات من 1970 إلى 1987».
– الباب الثالث: «عشريّتَا الاستبداد والفساد وتواطئ النخبة: فترة حكم ابن علب من 1987 إلى 2010».
– الباب االرابع: »عشريّة الانحراف والغنيمة والديمقراطية الغير مسؤولة من 2011 إلى 2021».
– الباب الخامس: «تونس إلى أين؟».
– الباب السادس: »رسائل مفتوحة إلى رؤساء الدولة والحكومات في العشريّات المنقضية».
– الباب السابع: «مقالات صحفيّة، مواقف وخواطر«.
كما تضمّن الكتاب في قسم «الملاحق» عديد الجداول والرسوم البيانية، تضمّنت ارقاما ومعطيات دقيقة عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بتونس بين 1965 و 2020 وقائمة المراجع المتصلة بتاريخ تونس المعاصر والراهن، باللغتين العربية والفرنسية.

المُؤَلّف من بناة دولة الاستقلال
ولد الأستاذ عبد السّلام القلاّل يوم 12 مارس 1932 ببرج القلاّل بمدينة صفاقس وسط عائلة وطنية ميسورة، كثيرة العدد تتألف من تسعة أفراد (بنتان و 7 أبناء). كان والده الصادق بن الحاج محمود القلاّل مالكا عقاريا وتاجرا كبيرا. أمّا والدته فهي السيّدة آمنة دربال من أسرة صفاقسيّة عريقة.
زاول دراسته الابتدائية بمدرسة مركز كمّون والثانوية بالمدرسة الصادقية بين 1949 و 1952 لكنه اطرد منها بسبب مشاركته في مظاهرات يومي 18 و 19 مارس 1952 فاضطرّ إلى العودة إلى صفاقس للدراسة بمعهد الذكور حيث أحرز على شهادة البكالوريا في جوان 1955. وفي 31 ماي من نفس السنة تحوّل إلى مرسيليا للمشاركة في استقبال الزعيم بورقيبة بميناء “سان شارل” إثر عودته مظفّرا بالاستقلال الداخلي.
وفي أكتوبر 1955 شدّ الرحال نحو باريس حيث رسّم بكلية الحقوق ودرس الآداب العربية والاقتصاد بمعهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية للبلدان السائرة في طرق النموّ. كما نشط بالشعبة الدستورية بباريس والاتحاد العام لطلبة تونس فانتخب صلب مكتبه الإداري وكتب بصحيفتي “الطالب التونسي” (لسان حال الاتحاد) و “L’Action Tunisenne” (لسان حال الحزب الحرّ الدستوري التونسي).
وفي سنة 1959 عُيّن مندوبا مساعدا للحزب بصفاقس قبل حصوله على الإجازة في الحقوق بالصربون التي حصل عليها بتفوّق في جوان 1960.
وبين 1959 و 1970 اضطلع بعديد المهام على الصعيدين الجهوي والمركزي وهي تباعا: مندوب مساعد للحزب بصفاقس بين 1959 و 1963 – رئيس للنادي الرياضي الصفاقسي بين 1961 و 1964 – أمين عام مساعد للحزب الدستوري بين 1963 و 1964 – رئيس مساعد لاتحاد الصناعة والتجارة بين 1963 و 1964 – والٍ على الكاف بين 29 جويلية 1964 و09 سبتمبر 1969 – والٍ على القصرين بين 10 سبتمبر 1969 و جويلية 1970.
وبإرادته الخاصّة، طلب إعفاءه من هذه الخطّة بسبب محاكمة صديقه ووالده الروحيّ ومهندس التجربة التعاضدية في تونس، الوزير أحمد بن صالح بسبب تحميله بمفرده مسؤولية فشل التجربة التعاضدية. وبعد تلكأ طويل، قبل وزير الداخلية بعد التشاور مباشرة مع الرئيس بورقيبة، استقالته فانتقل للعمل في المحاماة بتونس العاصمة إلى غاية خروجه إلى التقاعد في السنوات القليلة الماضية، حيث تفرّغ للكتابة في الصّحافة باللغتين العربية والفرنسية ومتابعة الشأن الوطني وتهيئة برج بيت والده بصفاقس (طريق قرمدة) إلى فضاء ثقافي يحمل اسم “برج القلاّل” تديره باقتدار “جمعية أحبّاء الفنون التشكيلية” برئاسة الصدقين والزميلين: أستاذة الأجيال للغة والآداب الانجليزية، السيّدة عايدة الزحّاف ونائب رئيس جامعة صفاقس سابقا، الأستاذ فائز القرقوري، حيث وضع مكتبته الخاصّة وأرشيف العائلة (وثائق ومخطوطات وصور…)، على ذمّة تلاميذ الأقسام النهائية والطلبة في قاعة مطالعة وبحث مهيأة ومكيّفة تُقدّم بها في آخر كل أسبوع الكتب والعروض الموسيقية وتُعقد بها الملتقيات والندوات الثقافية الجهوية والوطنية.

وقبل صدور هذا الكتاب نشر الأستاذ عبد السّلام القلاّل مؤلَّفان هما:
– الحلمُ والمنعرج الخطأ: الاشتراكية الدستورية في مرحلة الستينات، دار الجنوب، تونس 2018، 500 صفحة.
– الحبيب بورقيبة زعيم أمّة ورئيس دولة، مِيمْ للنشر، تونس مارس 2021، 152 صفحة.
وهو متحصّل على الصّنف الثاني من وسام الاستقلال ووسام الجمهورية وعديد الأوسمة من دول صديقة وهي يوغسلافيا واليونان وإيطاليا.
وعلى الصعيد الاجتماعي متزوج من السيدة ليلة القلاّل وأب لابنين، هما الصادق (أستاذ جامعي في الاقتصاد) وسامي محامٍ بتونس العاصمة.
المحطّات التاريخية التي شهدتها تونس على امتداد ستّة عقود:
يقول الكاتب متحدثا عن دوافع تأليفه لهذا الكتاب: «.. إنّ ما سعيت إليه في هذا الكتاب هو أن أقوم بدراسة تقييميّة ونقديّة باختصار شديد، لمسيرة دامت أكثر من نصف قرن، كنّا نأمل في النهاية تعصير تونس وازدهارها وهذا مع الأسف لم يحصل مما أدى إلى انتفاضة الشعب التونسي على وضعه المتردي والإطاحة بنظام بن علي. لقد حرصت في هذا الكتاب أن أعبّر بكلّ صدق عما يخالج نفسي، وما يدور بخلدي، وما استقرّ عليه تفكيري من أحكام صادمة في بعض الأحيان على الطبقة السياسيّة التي حكمت تونس في العشريّات المنقضية، المتكوّنة من الأحزاب والمنظمات والبعض من المجتمع المدني ومن رجال الفكر الذين احتلّوا المشهد السياسي قبل الثورة وبعدها وعجزوا على تحقيق ما حققته نمور أسيا في الفترة نفسها…».
ومن خلال أبواب وفصول الكتاب، تناول المؤلف بأسلوب علميّ طريف وجذّاب واستنادا إلى ارقام ومعطيات ودراسات علمية وتقارير رسمية…، خصوصيّات كل عشريّة منها: ملامحها، توجهاتها، بدءا بالخيارات السياسية والإيديولوجية، مرورا بخياراتها الاقتصادية والاجتماعية، لا سيّما منوال التنمية، وصولا إلى الخيارات الثقافية …الخ. وهي كما بيّن المؤلف، عَشريّات خيارات متناقضة، تراوحت بين الانفتاح والانغلاق من جهة، وبين الآحادية والتعددية في كل المجالات، أثّرت تأثيرا مباشرا على المجتمع التونسي بكافة مكوناته وشرائحه وعلى البلاد عامة ولا تزال البعض من آثارها راسخة إلى اليوم.

مخاطر عديدة تهدّد تونس اليوم:
استعرض المؤلّف المخاطر التي تتهدد تونس اليوم وتونس المستقبل أمام انسحاب الدولة منذ سنة 2011 بحجّة “مجاراة الشارع” و احترام “إرادة الشعب”… الخ.
وانطلاقا من معاينة لواقع الشباب العاطل والباحث عن الشّغل و الذي يعدّ بمئات الآلاف، والجهات المهمّشة التي لها الأولوية في التّنمية، قدّم المؤلف بعض المقترحات العاجلة لتجاوز هاتين المعضلتين قائلا: «…فالواجب الوطني يفرض اليوم على الجميع ترك الحسابات والمزايدات والمصالح الضيّقة لرفع التحّديات وذلك لا يكون إلا بالتّضحية وشدّ الأحزمة وتحمّل الحرمان والتخّلي عن الاعتصامات العشوائية والمطلبية المجحفة والتّحلي بالصبر في كنف التّضامن بين كل الفئات. لذا المطلوب من الحكومة الجديدة، أن تصارح الشعب بحقيقة الواقع الصّعب وكلّ الحقيقة، على ما يتّربص البلاد من مخاطر عسى أن تجعل حدّا إلى عقلية النّهم والتواكل واللامبالاة وتدفع بالجميع إلى العمل الجّاد…».
ولم يكتف بالتشخيص فحسب، بل قدّم بعض المقترحات العملية بقوله: «…وتتّمثل هذه القرارات في منح الأولوية المطلقة لهؤلاء وإشعارهم أنّ الحكومة والشعب إلى جانبهم وليس بالخطاب فقط كما هو الشأن إلى حدّ الآن، بل بالفعل. أليس من باب العدل وطمأنة الفئات المسحوقة بأن تدعو الحكومة المحظوظين، أي الميسورين من أصحاب رؤوس الأموال وكلّ من لهم شغل ودخل قار، أن يساهموا، إلى جانب المجهود الذّي تبذله الدّولة بالاعتماد على القروض لتوفير الإمكانيات الضرورية لمواجهة الفقر والبطالة وايجاد الآليات لتحقيق ذلك؟».
ورأى في هذا الإجراء «إنصاف لمن ضّحوا بالدّم للإطاحة بنظام الاستبداد بأن يجدوا المساندة ممّن لم ينلهم شرف المشاركة في هذه الثورة. ومن الطبيعي أن يتحمّل من استفاد من هذه الثورة نصيبه من التّضحية، فإن لم يدفع ضريبة الدّم، فعليه أن يساهم على الأقل بضريبة المال وهذا أضعف الإيمان. فالثورة ليست فرصة لطلب الحقوق بقدر ماهي فرصة للقيام بالعديد من الواجبات إزاء الوطن وإزاء المحرومين وعلى مسؤولي المنّظمات والأحزاب التّفهم لهذه المعاني ولطبيعة المرحلة».
لكنّه في المقابل قدّم بعض الاحترازات حول الاحتجاجات والاضرابات والحراك الاجتماعي قائلا: « فالحراك الاجتماعي هو مكسب من مكاسب الثورة، ولكن يجب ألاّ يؤول إلى اعتصامات عشوائية ومطلبية مجحفة وشغب متواصل. فالزيادة في الأجور لا ترفع من مستوى عيش المواطن إذا لم تكن مشفوعة بالزّيادة في الإنتاج والإنتاجية وتعميق الشعور بالتّضامن بين الفئات الاجتماعية والمؤسسات العامة والخاصّة من شأنه أن يخفف الاحتقان والشعور بالضّيم ويوّفر الأمن الاجتماعي ويشّجع على الاستثمار وتوفير الشغل. فهل من آليات لتفعيل هذا الشعور الوطني بالتضامن وترجمته إلى مساهمات مالية تتبّرع بها الفئات الميسورة لتمويل مشاريع تشغيلّية لفائدة الفئات المسحوقة…. ».
وهو بذلك يكون قد دعا الدولة إلى تحمّل مسؤوليتها الكاملة أمام تواصل هذا الوضع المزري.
ودون مجاملة ورمي للورود ورغم صلته بالعديد من السياسيين وفي مقدمتهم الأستاذ المرحوم الباجي قائد السبسي، فقد وقف المؤلّف على أخطاء كل رئيس حكومة من الحكومات المتعاقبة بعد 14 جانفي 2011، بدءا بالباجي قائد السبسي (من رئيس حزب إلى رئيس دولة) و أخطاءه الكثيرة والفضيعة، مرورا بحكومة الحبيب الصيد، الذي لم ينقَدْ لتعليمات رئيس الدولة، فأطاحوا به وغادر الحياة السياسية من الباب الصغير…، إلى حكومة يوسف الشاهد، المنقلب على رئيس الدولة وصولا إلى الحسابات الخاطئة للباجي المتحالف مع حركة النهضة وفشله الذريع ونهايته المؤلمة وغير المتوقعة…
ولم يكتف بعرض للمقالات الصادرة له في الغرض حينئذ بالصّحف الورقية والالكترونية (باللغتين العربية والفرنسية)، بل وجّه إلى رؤساء الدولة والحكومات المتعاقبة رسائل مفتوحة في الغرض.

رسائل مفتوحة إلى رؤساء الدولة والحكومات من بداية الانتفاضة 17 ديسمبر 2010-14 جانفي 2011:
نشر الأستاذ عبد السّلام القلاّل في الباب السادس من الكتاب رسائله المفتوحة التي كان قد وجّهها بالخصوص إلى رؤساء الحكومات وهم: المهدي جمعة والحبيب الصيد ويوسف الشاهد ونجلاء بودن رمضان، وإلى رَئِيسَيْ الدولة الباجي قائد السبسي وقيس سعيّد.
وقد شدّتني شخصيّا رسالته التي وجّهها إلى الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي، والتي كانت في شكل كتاب يحمل عنوان: «الحلم والمنعرج الخطأ»، صدر في جولية 2018، ضمّنه مذكراته ودراسة تقييمية ونقدية لعشريتَيْ الخمسينات والستينات من القرن الماضي اللتين أعتبرَهُمَا أهمّ فترة في تاريخ تونس الحديث وذلك للردّ على ما قاله في إحدى خطبه بكل عنجهية وحقد على نظام بورقيبة ودولة الاستقلال من «أنّ تونس بقيت منذ الاستقلال خراب في خراب في خراب» !
وللتذكير كان الدكتور المرزوقي قد أعاد هذه الكلمة ثلاث مرات، فأثارت حفيظة الكاتب وشعَرَ بالتحدي فقرّر رفع هذا التحدي (رغم أنه ترك السياسة في سبتمبر 1970 ولم يكن يفكّر أن يكتب يوما من الأيام مذكراته)، لأنه أعتبر ما قدّمه من نضال وتحمّل للمسؤوليات سياسية من واجب المواطنة لا أكثر ولا أقل. لكنه اضطرّ إلى كتابتها ونشرها – بعد مرور 45 سنة على مغادرته للساحة السياسية – للرد على تُرّهات الرئيس المؤقت المنصف المرزوقي وحلفائه الحاقدين على دولة الاستقلال.
ومن خلال رسائله إلى رؤساء الدولة ورؤساء الحكومات المتعاقبة، شخّص الأستاذ عبد السّلام القلاّل واقع تونس المتأزّم في جميع القطاعات والميادين وقدّم بعض المقترحات والحلول العملية لتجاوزها والتقليص من تداعياتها. لكن ما من مجيب، سواء كتابيا أو شفويا !
أمّا خاتمة الكتاب فجاءت في صيغة الحسرة و “جلد للذات” على الأخطاء الفضيعة التي ارتُكبت منذ مطلع الاستقلال من طرف عدة أطراف في شتى المجالات – عن قصد و عن غير قصد – فحالت دون تحقيق تونس لحلمها بقوله:«… كان بالإمكان لهذا الحلم أن يتحقّق مثل ما حقّقته البلدان الآسيويّة، لو تمسكنا بطريقنا الثالث للتنمية أو بما يسمّى بالاشتراكيّة الدستوريّة التي كانت تهدف إلى تشريك كلّ فئات الشعب ومختلف الجهات في مجهود التنمية بصورة متوازنة وعادلة، واعتمدنا على عزيمتنا للتطوّر ومجهودنا الذاتي بما ينطوي عليه من ثقافة العمل ومن تضحية وتقشّف من أجل الأجيال القادمة، ومواصلة الاعتماد على مشروعنا الليبيرالي المجتمعي ومخطّطاتنا المحدودة في الزمان وواضحة الأهداف لمدّة عقدين او ثلاثة عقود…».
وبذلك يبقى المؤلّف وفيّا لعائلته الدستورية ومرجعياته، وهي نفس المرجعيّات السياسية والاقتصادية – الاجتماعية لقادة وزعماء تونس في الستينات، التي درسوا مبادئها ونظرياتها على سد كبار أساتذة السربون وكبرى الجامعات الفرنسية في أقسام العلوم السياسية والاقتصاد والجغرافيا… الخ، إبّان الحرب الباردة.
وبقدرِ الألم الذي كان يشعر به كمسؤول أوّل حينئذ في ولايتين ثريتين وشاسعتين وحدوديتين مع الجزائر في الستينات، الكاف (ستّ سنوات) والقصرين (سنة)، عن عدم تحقيق هذا الحلم لعدة أسباب وعوامل، فإنه يبقى اليوم متفائلا بإمكانية تحقيقه قائلا: «… وبعد نظر وبالاعتماد على أنفسنا وإمكانياتنا الذاتية والأخذ بتجربة الدول التي سبقتنا في طريق التقدم والازدهار، لكنّا حققنا لشعبنا وبلادنا القفزة المرجوة نحو الأفضل وكنّا اليوم في مصاف الدول الصاعدة (Pays Emergents). على كل، كان هذا حلمنا الذي لم يتحقّق بعد مع الأسف وأملنا كبير في أنّ الأجيال المقبلة سوف تكون قادرة على تحقيقه وتنتصر في الأخير تونس وترتقي إلى مصاف الدول المتقدمة وهي قادرة على ذلك بفضل عبقرية كفاءاتها…».
يقيننا أنّ القراء العاديّين والمختصّين من طلبة باحثين وأساتذة مدرّسين…، سيجدون بالتأكيد في إصدار الأستاذ عبد السّلام القلاّل ضالتهم، فهو في نظري كتاب لا يمكن الاستغناء عنه لفهم أبرز المحطات التاريخية التي مرّت بها تونس، منذ مطلع الاستقلال إلى غاية سنة 2021 مرورا بانتفاضة الحرية والكرامة (بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011)، والتي كان من أهمّ شعاراتها ومطالب المشاركين فيها: العيش الكريم: «شغل، حرّية..، كرامة وطنية» والتنمية المستدامة في جميع القطاعات وبكامل جهات البلاد: «الشّعب يحبّ يعيش..، لا للحُڨرة والتهميش…» !
وعموما مزيّة هذا الكتاب أنه كما جاء في خاتمة تقديمه بقلم الدكتور حمادي بن جاء بالله: »وفي تقديرنا، إنّ أهم ما في كتاب الأستاذ عبد السّلام القلاّل إنما هو درس في الوطنية الواعية بواجبها المتبصرة بواقعها، والعاملة في جد لا يلين على الارتقاء بتونس إلى الموقع المشرف بين أمم الدنيا تحت شمس الله. وهل درس أنبل من هذا وأجدي؟ وهل تكريم سعدت به شخصيا أبعد معنى من الذي حباني به أخي الكريم ”سي عبد السلام” عندما شرّفني بقراءة رسالته هذه إلى التونسيّين، وأمّنني على التقديم لها؟ ».
أملنا أن يُفرد الباحث المحترف والمناضل المحنّك في الحقل السياسي، الأستاذ عبد السّلام القلاّل، قرّاءه الأوفياء بكتاب رابع يتضمّن الحلول والتصوّرات العملية الممكنة حتى يتسنّى للتونسيّين بمفردهم، إخراج البلاد من أزمتها في جميع القطاعات والميادين، وكلهم ثبات وثقة في مستقبل أفضل لأبنائهم والأجيال القادمة، باختلاف انتماءاتهم السياسية ورؤاهم الأيديولوجية والفكرية.
«الحلم الأخير: تونس إلى أين؟» للأستاذ عبد السّلام القلاّل، تقديم الأستاذ حمّادي بن جاء بالله- تونس 2025.
* أستاذ بجامعة سوسة.
شارك رأيك