الدور الحقيقي للآباء البيض في تونس

يشيع في الخطاب العام الحديث عن «تعدديّة» المجتمع التونسي، حتى بات بعضهم يساوي بين أقليات تاريخيّة ضاربة في الجذور منذ قرون، وبين جماعات استُقدمت مع الاستعمار الفرنسي. وهذه المساواة خطأ جسيم، إذ تقلب التسلسل التاريخي وتشوّه طبيعة الوجود الأجنبي في تونس. (الصورة : نصب الكاردينال لافيجيري وسط العاصمة تونس قبل إنزاله بعد الاستقلال عام 1956).

خميس الغربي

نعم، عرفت تونس منذ القدم أقليّات دينيّة وثقافيّة متجذّرة: يهود استقرّوا منذ العصور القديمة، جماعات مسيحيّة من العهد البيزنطي أو الوسيط، وأُسر وقبائل متنوّعة اندمجت في النسيج الوطني عبر القرون. لكن من الخطأ البين أن نُلحِق بهذه الجذور الأصيلة الفئات التي جاءت في عربات الاستعمار بعد سنة 1881؛ من موظّفين ومستوطنين وبعثات تبشيريّة وجنود. هؤلاء لم يأتوا كأقليات تاريخية، بل كأدوات سلطة خارجية غاصبة ومحتلة.

وكذلك، فإن الادّعاء بأن هذه الجماعات «أغنت البلاد» بالقدر نفسه الذي أغناها أبناؤها، يتجاهل سياق النهب والمصادرة. فالمدارس والمستشفيات والكنائس والمؤسسات التي أنشأوها إنما جاءت في إطار خدمة النظام الاستعماري وتوطيد الوجود الأوروبي؛ لم تُنشأ لصالح الأكثريّة التونسيّة ولا تحت إدارتها. والآباء البيض أنفسهم، وإن لبسوا لباس العمل الخيري، كانت رسالتهم الأولى التبشير والتنصير والاقتلاع الثقافي، لا خدمة الشعب بإخلاص.

وأخيرًا، لا يجوز أن يُستَخدَم شعار «التاريخ الرسمي يتجاهل الأقليات» ذريعةً لمحو الطابع الاستعماري لاحتلال أجنبي. ان الاعتراف بتعدديّة تونس الحقيقية لا يعني تبرئة مراحل الهيمنة ولا تحويل المستعمرين إلى جزء من النسيج الأصيل.

هذا التوضيح ضروري لفهم الدور الحقيقي للآباء البيض في تونس، ووضع مؤتمر قرطاج الإفخارستي لعام 1930 في سياقه الصحيح: لا بوصفه تعبيرًا عن «تعدديّة تونسية»، بل باعتباره ذروة مشروع تبشيري في خدمة الاستعمار الفرنسي.

إن هذا التوضيح يعيد وضع نشاط الآباء البيض في إطاره الحقيقي: ليس كأقلية متجذرة، بل كأداة تبشيرية في خدمة المشروع الاستعماري.

مبنى معهد سان لويس في قرطاج أواخر القرن 19 وبداية القرن 20.  

الآباء البيض مشروع في خدمة الاستعمار

لم يقتصر التاريخ الاستعماري لتونس على الجوانب السياسية والاقتصادية، بل ارتبط أيضًا بمشروع ديني توسّعي جسّده الآباء البيض، وهي جماعة أسّسها سنة 1868 الكاردينال شارل لافيجري (1825-1892)، أسقف الجزائر ثم قرطاج. كان شعارهم المعلن: «تبشير شمال إفريقيا». وقد ارتبط عملهم عضويًا بالحماية الفرنسية (1881-1956) وتجلّى في محاولة لإعادة إخضاع الروح التونسية، بلغ أوجَه سنة 1930 مع انعقاد المؤتمر الإفخارستي بقرطاج.

رسالة في خدمة الاستعمار

منذ إقامة الحماية الفرنسية سنة 1881، تمركز الآباء البيض في تونس بدعم السلطات الاستعمارية والثكنات العسكرية. ارتكزت استراتيجيتهم على إنشاء مدارس ومستشفيات ودور أيتام، لكن هذا العمل الاجتماعي لم يكن منفصلًا عن غايته الجوهرية: التنصير والاقتلاع الثقافي ومحو الدين الإسلامي.

قال الكاردينال لافيجري في خطبته الشهيرة عام 1868: «إن إفريقيا خاضعة للإسلام، وإذا لم تهتمّ بها أوروبا المسيحية ستضيع».

هذا البرنامج التبشيري سعى إلى «تغريب» المجتمع: تعليم بالفرنسية، تلقين ديني مسيحي، تهميش اللغة العربية والعادات الإسلامية، وتمزيق البنى الأسرية والاجتماعية التقليدية.

متحف لافيجيري في قرطاج.

قرطاج، الرمز المستعاد

يتجلّى هذا الطموح في بناء كاتدرائية القديس لويس بقرطاج، التي افتُتحت سنة 1890 على تلّة بيرصا، أحد أقدس معالم التاريخ التونسي. أُقيمت على الموقع المفترض لوفاة لويس التاسع (القديس لويس)، لترمز إلى رغبة الكنيسة في جعل قرطاج مركز إشعاع مسيحي جديد في شمال إفريقيا.

أساليب مثيرة للجدل

أعمال خيرية مشروطة: غذاء وعلاج وإيواء في دور الأيتام غالبًا مقترنة بتلقين ديني إلزامي.

مدارس تبشيرية: أداة لفرنسة الأجيال الناشئة وقطعها عن جذورها الثقافية.

خطاب استعلائي تجاه الإسلام: في عظته عام 1888 دعا لافيجري إلى «تخليص إفريقيا من الخطأ المحمدي».

هذه المبادرات كانت متزامنة مع عملية نزع الأراضي التي مارستها الإدارة والجيش الفرنسيان لصالح المستعمرين، فيما قام الآباء البيض بنزعٍ ثقافي وروحي موازٍ.

المؤتمر الأفخارستي بقرطاج عام 1930 من أجل تمسيح شمال أفريقيا.

مؤتمر قرطاج الإفخارستي (1930)

بلغ المشروع ذروته سنة 1930. بمناسبة مرور قرن على احتلال الجزائر (1830-1930)، نظّمت الكنيسة الكاثوليكية في قرطاج مؤتمرًا إفخارستيًا دوليًا (7–11 مايو 1930).

• عشرات الآلاف من الحجاج والمبشّرين ورجال الدين تدفقوا من أوروبا.

• أعلن المؤتمر قرطاج «عاصمة روحية لإفريقيا» ودعا إلى تكثيف التنصير في المغرب العربي.

• في خطابه الافتتاحي، تحدّث الكاردينال ألفريد بودريار، مدير المعهد الكاثوليكي في باريس، عن «استعادة روحية لأرض كانت مسيحية وأُعيدت إلى الكنيسة».

ردود الفعل التونسية وأثرها

اعتبرت النخبة الوطنية هذا المؤتمر استفزازًا سافرًا. الصحافة الوطنية (خصوصًا «صوت التونسي» لمحمد شنيق والحبيب بورقيبة، زعيم المستقبل) شجبت الإهانة الموجّهة للإسلام وللهوية الوطنية.

الحزب الدستوري (الذي أسّسه عبد العزيز الثعالبي سنة 1920) فضح التواطؤ بين الاستعمار والحملات التبشيرية. وفي كتاباته رأى الثعالبي أنّ فرنسا تسعى إلى «السيطرة لا على أراضينا فحسب بل على أرواحنا أيضًا».

هذا الحدث ساهم في دفع الشباب الوطني إلى مزيد من التشدد وربط النضال ضد الاستعمار بالدفاع عن الإسلام كهوية جامعة.

ضيعة تيبار في جهة باجة حيث أنتج الآباء البيض أنواعا عديدة من الخمور.

الإرث والذاكرة

لا يزال مؤتمر قرطاج الإفخارستي حاضرًا في الذاكرة الجماعية كتجلٍ صارخ للتحالف بين الصليب والسيف. فمشروع الآباء البيض، وإن قُدّم في ثوب العمل الخيري، كان جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية الهيمنة الاستعمارية.

وهو يذكّر بأن الاستعمار لم يقتصر على النهب الاقتصادي بل سعى أيضًا إلى إعادة تشكيل الروح والذاكرة. وقد وصف بورقيبة هذا الحدث لاحقًا بـ «الكارثة» في خطبه.

بعد الاستقلال صفحة جديدة تفتح

بعد استقلال تونس عام 1956، بقيت عدة طوائف للآباء البيض في البلاد. وأسفرت المفاوضات بين الفاتيكان والحكومة التونسية عن اتفاق عام 1964، أُغلق بموجبه عدد كبير من الكنائس، مع إبقاء بعضها مفتوحًا أمام الكاثوليك لضمان حرية العبادة، بما في ذلك كاتدرائية تونس.

وهكذا، واصل الآباء البيض ممارسة نشاطاتهم في تونس، بين المسيحيين من سكان البلاد، وفي الأنشطة الثقافية والاجتماعية والدينية. وفي هذا السياق، أنجزوا عملاً بارزاً في معهد الأدب العربي (إيبلا)، الذي تحظى مكتبته ومجلته بتقدير كبير في الأوساط الأكاديمية في تونس وخارجها.

دُمِّر مقرّ إيبلا في حريقٍ عام 2010، وأُعيد ترميمه وافتتاحه للجمهور في 18 أكتوبر 2014.

تحتوي مكتبة إيبلا على 30 ألف كتاب و600 دورية. وهي من أغنى المجموعات في تونس، باللغتين العربية والفرنسية (وأيضًا بالإيطالية والإنجليزية والألمانية والإسبانية) عن تونس والمغرب والمشرق.

مركز معهد الآداب العربية (إيبلا) في مدينة تونس.

المراجع والمصادر:

• شارل-روبير أجرون، «المسلمون الجزائريون وفرنسا (1871–1919)»، منشورات PUF، 1968.

• فرنسوا رونو، «الكاردينال لافيجري»، فايار، 1992.

• صادق بوبكر، «مؤتمر قرطاج الإفخارستي 1930: استفزاز استعماري وردود الفعل التونسية»، مجلة التاريخ المغاربي، 1980.

• عبد العزيز الثعالبي، «تونس الشهيدة»، 1920.

• أرشيف الصحافة الاستعمارية («الديبيش التونسية»، مايو 1930)

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.