بينما يلتئم مؤتمر “حل الدولتين” اليوم الإثنين 22 سبتمبر 2025 في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث يُتوقّع أن تعلن وتُؤكد عدة دول غربية اعترافها بالدولة الفلسطينية، يعود إلى الأذهان خطاب الرئيس الحبيب بورقيبة التاريخي في أريحا سنة 1965. خطاب بورقيبة في أريحا كاملا. (عبد الناصر و بورقيبة : رؤيتان متناقضتان لحل القضية الفلسطينية).
العقيد محسن بن عيسى *

هذا الإعلان المتوقع ليس مجرد خطوة دبلوماسية عابرة، بل هو منعطف رمزي يكسر عزلة سياسية طويلة، ويمنح الفلسطينيين شرعية دولية أرسخ. ومع ذلك، يظل الاعتراف وحده غير كافٍ لإيقاف النزاع وفرض حلّ عادل. يطرح هذا الأمر سؤالاً جوهرياً: هل هو تتويج لرؤية استراتيجية أم مجرّد غطاء دبلوماسي لواقع دموي قائم؟
بورقيبة 1965 : رؤية استباقية
فكرة الدولتين ليست جديدة، فهي تعود إلى قرار الأمم المتحدة التأسيسي رقم 181 لسنة 1947 الذي قسّم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية. لكن الرؤية الثورية الحقيقية جاءت من بورقيبة، الذي دعا في الستينيات إلى قبول هذا الحل، وفي ذروة الخطاب القومي الرافض. لقد قوبل آنذاك طرحه بالرفض والاتهام بالخيانة، لكن كان برغماتيًا يستبق الكارثة بدل انتظارها.
لم يكن بورقيبة يدعو إلى تنازل مجاني، بل دعوة إلى استغلال أدوات “الشرعية الدولية” لبناء كيان فلسطيني معترف به. اليوم، تمثل الاعترافات تجسيدًا متأخرًا – وإن كان ناقصاً- لتلك الرؤية التي حُوربت بشدّة.
في جوان 1973، أفادت وكالة Jewish Telegraphic Agency أن رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مئير كانت مستعدة للقاء بورقيبة، لكنها رفضت اقتراحه بإقامة دولة فلسطينية، معتبرة أنّ هذا الحل غير قابل للتطبيق.
هذا يبيّن رفضُ الاقتراح لا يعني رفض الحوار، بل يعكس خطوطًا حمراء لكل طرف. هذه الواقعة في مسار الصراع تُحيلنا إلى المدرسة الواقعية التي ترى في موقف بورقيبة اعترافًا بميزان القوى أي قبول التفاوض حتى من موقع ضعف لتفادي العزلة أو الهزيمة الكاملة.
“الكل أو لا شيء” في السياسة كما في الحرب يعرفه المنظّرون جيّدا. ففي السياسة يُترجَم إلى مواقف قصوى: لا مساومات، لا حلول وسط. هذا قد يثير الحماس أو يحفظ صورة متشدّدة أمام الجماهير، لكنه عادة يضيّق مساحة المناورة ويغلق أبواب المفاوضات التي قد تعطي نصف الحقوق بدل خسارتها كلها.
أما في الحرب، فشعار “الكل أو لا شيء” غالبًا يقود إمّا إلى نصر ساحق أو هزيمة مدمّرة. قليل جدًا من الأطراف يخرجون سالمين عند اللعب بهذه القاعدة.
المدارس الواقعية والسياسية العملية تنبّه دائمًا: من يتبنى منطق “الكل أو لا شيء” قد يجد نفسه في خانة “لا شيء” أكثر مما يتوقع.
من أريحا إلى نيويورك : مقارنة في سياقين مختلفين
تكشف المقارنة بين خطاب أريحا والاعترافات الحالية عن تحول عميق واختلاف في السياقات:
السياق الدولي: كان الخطاب العربي في الستينات يرفض أي اعتراف، بينما العالم كان منقسمًا بفعل الحرب الباردة. اليوم، العالم لم يعد خاضعًا لقطب واحد، بل أصبح متعدد الأقطاب. هناك قوى كبرى تتحرك في آن واحد. بعض الدول الأوروبية تحاول أن تميز نفسها ولو جزئيًا، فلا تصطف كليًا مع الولايات المتحدة، ولا تنخرط بالكامل مع الصين أو روسيا، بل تسعى إلى اتباع سياسة خاصة تمنحها قدرًا من الاستقلالية.
مضمون الطرح: نصح بورقيبة بالقبول بالقرار 181 ثم المفاوضة من موقع قوة الشرعية. اليوم تعترف بعض الدول الغربية بدولة فلسطينية على حدود 1967، أي قريب مما دعا إليه بورقيبة، وبعد خسارة أراضٍ إضافية بفعل الاستيطان.
ردود الفعل: واجه بورقيبة رفضًا وخيانة، بينما الفلسطينيون اليوم يستقبلون الاعترافات بين الترحيب الرمزي والشك في فعاليتها، وإسرائيل تعتبرها تهديدًا سياسيًا.
الواقعية السياسية لا تعني التنازل الكامل، لكنها تعني العمل ضمن الإمكانيات المتاحة مع الحفاظ على الأهداف الاستراتيجية.
إرث بورقيبة : براغماتية ضرورية
لا يمكن إنكار دور الدول العربية في الدفاع عن القضية الفلسطينية، لكن جزءًا كبيرًا من النظام الرسمي العربي وظّف القضية لتحقيق مكاسب داخلية، أحيانًا على حساب المشروع التحرري نفسه.
في هذا السياق، يصبح إحياء رؤية بورقيبة ضرورة استراتيجية، وإن كانت تواجه تحدياً لم يكن حاضراً في الستينيات: الحجم الهائل للمستوطنات الإسرائيلية التي غيرت الواقع على الأرض وتجعل من فكرة الدولة القابلة للتعايش صعبة.
يستوجب العودة إلى هذا الإرث الجمع بين:
واقعية تكتيكية : استغلال كل ورقة دبلوماسية وقانونية لتحقيق مكاسب ملموسة على الأرض: مثل وقف الاستيطان، ورفع الحصار، وتحسين الظروف المعيشية، كخطوات على طريق الدولة وليس بديلاً عنها.
التدرج الاستراتيجي: بناء الدولة وتعزيز الوحدة الوطنية والحفاظ على التماسك الاجتماعي ومتابعة المساءلة القانونية
اختبار صدق الموقف الغربي: التأكد من أنّ الاعترافات ليست رمزية، بل تترافق بضغوط ملموسة على إسرائيل.
حتى الآن، تعترف نحو 150 دولة من أصل 193 بدولة فلسطين. صحيح، العدد الكبير من الاعترافات يمنح فلسطين شرعية رمزية. لكن ليست كل الاعترافات متساوية الوزن: فرنسا مثلًا ليست دولة صغيرة في الهامش بالرغم من ظروفها السياسية الحالية، بل عضو دائم في مجلس الأمن، وقوة نووية، ولها ثقل سياسي وثقافي داخل أوروبا والعالم. اعترافها لا يزيد العدد فقط، بل يعطي الاعتراف طابعًا نوعيًا.
هذا فضلا عن التحاق دول أخرى -9 دول أكدت رسميا أنها ستعترف بدولة فلسطينية قبيل اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة- والذي يخلق كتلة وازنة داخل الاتحاد الأوروبي وخارجها، ما قد يؤثر في السياسات تجاه إسرائيل وفلسطين (مساعدات، اتفاقيات، ضغط دبلوماسي). الاعتراف من هذه الدول التي راجعت موقفها يضعف حجة إسرائيل بأن “الغرب كلّه” يقف خلفها بلا استثناء. ومع اعتراف بريطانيا وفرنسا ستُحظى فلسطين قريبًا بدعم 4 من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن الدولي، إذ تعترف كل من الصين وروسيا بدولة فلسطين منذ سنة 1988.
ما بين أريحا 1965 ونيويورك 2024، يظل جوهر المسألة واحدًا: البراغماتية كخيار استراتيجي، والاعتراف الدولي كوسيلة لا غاية. الاعترافات الغربية الجديدة قد تفتح نافذة، لكن وحدها لا تُنهي الصراع ما لم تتحول إلى أدوات ضغط سياسية واقتصادية حقيقية على الأرض.
* ضابط سابق في الحرس الوطني.
شارك رأيك