خلال الأشهر الأخيرة، سجّلنا سابقة غير مألوفة: عدد المهاجرين التونسيين المحتجزين داخل مراكز الحجز والترحيل الإيطالية لم يتجاوز 90 شخصًا، في حين كان هذا الرقم في السنوات الماضية يناهز الألف.
هذا الانخفاض اللافت يثير أكثر من سؤال: هل يعكس فعلاً تقلّص أعداد الواصلين من تونس؟ أم أنه نتيجة لتغيّر في مسار السياسات والقرارات القضائية بإيطاليا؟
الأرقام الرسمية لوزارة الداخلية الإيطالية تشير إلى أن عدد المهاجرين التونسيين الواصلين إلى السواحل الإيطالية إلى غاية اليوم 29 سبتمبر لم يتجاوز 1387 منذ بداية السنة. وهو رقم منخفض مقارنة بالسنوات الماضية، لكنه لا يفسّر بمفرده تقلّص أعداد المحتجزين إلى هذه الدرجة. فما الذي حصل إذن منذ شهر جوان؟
المعطيات المتوفرة تفيد بأن السلطات الإيطالية لم تنفذ أي عملية ترحيل بحق مهاجرين تونسيين منذ هذا التاريخ 12 جوان 2025 في حين قامت بعمليات ترحيل فردية و إلى عدد قليل على متن الرحلات التجارية .
وهنا يظهر أثر القضاء الإيطالي: محاكم في باليرمو وفيرنزا رفضت مؤخرًا الاحتفاظ بمهاجرين تونسيين في مراكز الحجز، مستندة إلى أحكام محكمة العدل الأوروبية التي أكدت أن تصنيف “البلد الآمن” لا يمكن أن يُطبّق بشكل آلي على كل الحالات، بل يجب النظر في أوضاع الأفراد وظروفهم الخاصة.
هذا التوجه القضائي يتعارض مع الإرادة السياسية المعلنة، سواء في روما أو تونس. فالاتفاقيات الثنائية بين رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني و قيس سعيد رُوّج لها باعتبارها أداة فعالة للحد من “الهجرة غير النظامية” وتسريع الترحيل. لكن الواقع يُظهر أن القضاء الإيطالي، مدعومًا بتقارير حقوقية دولية، يعيد فتح النقاش حول وضع تونس: هل هي فعلاً بلد آمن؟
التقارير الحقوقية والدولية تتحدث عن تراجع خطير في مجال الحريات العامة، وتزايد التتبعات ضد الناشطين والحقوقيين والمعارضين السياسيين. وهي معطيات تضع القضاة الإيطاليين أمام مسؤولية مضاعفة: هل يمكن تسليم أشخاص لدولة متهمة بالتضييق والقمع، فقط استجابة لإرادة سياسية أو اتفاق ثنائي؟
القضاء الإيطالي أرسل إشارة واضحة: لا يمكن أن يُختزل مصير المهاجرين التونسيين في صفقات سياسية، ولا يمكن اعتبار تونس بلدًا آمنًا بينما الواقع يكشف عن تضييق وقمع متصاعد. الرسالة إلى الحكومتين الإيطالية والتونسية واضحة: لا شرعية لأي سياسة هجرة تتجاهل الحقوق الإنسانية، ولا استقرار حقيقي يُبنى على
حساب الحريات والكرامة.
شارك رأيك