تحركات الأهالي في قابس احتجاجا على تواصل التلوث الصناعي في تلك المنطقة التي كانت في ما مضى جنة على وجه الأرض كانت و ستظل درسا في الحضرية و التركيز على المطالب الأساسية بعيدا عن القفز على الأحداث من جانب من سعى لتوظيفها ومن جانب آخر من عمل عبثا على تهميشها و تقزيمها.
إلياس القصري *

هذه الاحتجاجات في قابس أظهرت بالكاشف الهوًة بين الدولة والشعب بعد أن كانت تخص البطالة و القدرة الشرائية إلى أن وصلت الى المجازفة بالحق في الحياة و ما عيًره بعض “كرانكة” آخر الزمان بكيلوغرام بطاطا.
قابس قد تكون آخر محطة لمفهوم دولة متوارث من العهد العثماني المبني على التعالي و اعتبار الشعب رعيًة و رعاع تتلخص حقوقه في الطاعة لأسياده و دفع ما حدًد له من جزية.
و ضمن هذه الرؤية لا يحسن التقييم و التفاعل مع الأوضاع في تونس من يسعى لقراءة الديناميكية الاجتماعية في بلادنا عبر الحراك الشبابي في المغرب أو الهوس الانقلابي عند الطغمة العسكرية الحاكمة في الجزائر أو تناحر القبائل و الميليشيات و المصالح في ليبيا. فلتونس خصوصياتها التاريخية و الاقتصادية و السياسية و حتى السيكولوجية التي تفرض تمحيصا عميقا للأسباب و المسببات الداخلية قبل كل شيء.
و لعل من دلائل الهوة القائمة بين الدولة و الشعب في تونس ما لوحظ في مشروع قانون الماليًة لسنة 2026 من عدم إلى استيعاب مخرجات التعداد السكاني لسنة 2024 و الذي من أهم مؤشًراته تباطؤ خطير في النمو الديمغرافي و بداية شيخوخة المجتمع التونسي.
لو كانت هناك سياسة مستقبليًة للبلاد لوقع بعث حوار مجتمعي حول طرق تصحيح بعض السياسات الحكوميًة الراجعة إلى ستًينات القرن الماضي التي كانت تهدف الى تحديد النسل و التقليص من النموً الديمغرافي و ذلك بأدوات و تسهيلات متنوًعة من ضمنها تخفيف العبء الجبائي على العائلات و الشرائح العمريًة المعنيًة بتلك المؤشًرات الملفتة للانتباه.
لكن على ما يبدو مشروع ميزانيًة الدولة مع السياسة المزدوجة في التثقيل المتواصل في العبء الجبائي و في نفس الوقت الإيهام بزيادات في الأجور تموًلها الديون الخارجيًة المكلفة للأجيال القادمة بقيت في نسقها المعهود بدون مؤشًر واضح لاستخلاص العبر السوسيو اقتصاديًة للبلاد التي أصبحت مهدًدة ليس فقط بالمديونيًة و الإفلاس بل بالاندثار السكاني و الحال أن الوضع الدولي المتقلًب و دول الجوار يتربًصون بها ليجعلوا منها لقمة سائغة.
* سفير سابق.



شارك رأيك