بعد أن فاز دونالد ترامب بولايته الثانية تبنى مفهوم القوة من أجل الاستسلام لا السلام، وهو مصطلح دراماتيكي همجي، ومفهوم تطرفي إلى حد بعيد بناء على تعاليم من التوراة والإنجيل المحرّفين، بل بناء على تلمود مزيف يرسخ فكرة احتلال الأراضي وسفك الدماء وقتل العرب والمسلمين.
فوزي بن يونس بن حديد
ممارسةُ الديمقراطية على أرض الواقع أمر في غاية الصعوبة، لا سيما إذا تبنّتها دولٌ عرف عنها تاريخيًّا أنها تستخدم القُوة لتحقيق مآربها ومصالحها، وليست هناك دولة في العالم تمارس الديمقراطية على أرضها رغم ادّعائها، لأن الديمقراطية في أساسها تعني احترام الآخر مهما كان عرقه أو جنسه أو دينه أو لونه، وهذه في العادة تكون شعارات برّاقة قد تتحدث بها إحدى الدول لإيهام الآخر أنها فعلا تتبنى هذا النوع الراقي في التعامل داخليّا بين أفراد شعبها وخارجيّا في تعاملها مع الدول الأخرى، ولستُ ضليعا في السياسة الخارجية، لكن الذي أعرفه أن العلاقات بين الدول في المواثيق الدولية إنما تُبنى على أساس أن لا أحد يتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة كما لا يجوز لهذه الدولة أو غيرها التدخل في شؤون الآخرين، غير أن السائد في التاريخ الإنساني أن لا أحد التزم بذلك بل إن ممارسة هذا النوع من السلوك تكون في الغالب نسبية وتختلف من دولة إلى أخرى.
سياسة ضبط النفس بين الأقوياء فقط
وعندما ترى وتسمع وتقرأ ما يحدث في عالم اليوم، خاصة بعد حربين عالميتين فتَكَتَا بالبشر والحجر في القرن العشرين، فإن القرن الحادي والعشرين قد أحدث رجّة وهزّة في تغيّر العلاقات الدولية وميلها نحو العنف والقسوة والاحتلال والسيطرة والتوسع، وهذا الكلام إنما ينطبق على دول بعينها رأت أن القوة وحدها كفيلة بردع أي معارض لسياسة معينة تتبعها إحدى الدول الكبرى، على أن هذه الدول الكبرى ذاتها ما زالت إلى اليوم تمارس سياسة ضبط النفس بينها رغم العداء الخفي الذي يسري في عروقها، مثل العلاقات الأمريكية الروسية، أو العلاقات الأمريكية الصينية، أو العلاقات الأمريكية الكورية الشمالية، أو العلاقات الروسية الأوروبية، وإلا فإن العالم قد دخل منذ زمن في حروب استنزاف كبيرة كبّدت العالم كله خسائر فادحة وكبرى في الأرواح والعمران، ودمّرت ما بناه الإنسان في قرون من الزمان.
هناك عقول بشرية تربّت على التدمير، وسعت إلى ترسيخ مفهوم القوة لتحقيق الاستسلام، والسيطرة على منابع الثروات، واحتلال الأراضي دون وجه حق، وهذا ما رأيناه في الحروب المتأخرة أكثر، رغم وجوده قبلُ وكان سببا مباشرا لقيام حربين عالميتين، وها هو السيناريو يتكرر اليوم وأمام أعين العالم الذي لم يستطع ضبط نفسه، فالدولة الامبريالية الأعظم في العالم تتجه نحو هذا الاتجاه بقوة بعد أن فاز ترامب بولايته الثانية وتبنى مفهوم القوة من أجل الاستسلام لا السلام، وهو مصطلح دراماتيكي همجي، ومفهوم تطرفي إلى حد بعيد بناء على تعاليم من التوراة والإنجيل المحرّفين، بل بناء على تلمود مزيف يرسخ فكرة احتلال الأراضي وسفك الدماء وقتل العرب والمسلمين مثل احتلال الحركة الصهيونية الأراضي الفلسطينية والسورية والمصرية والأردنية وإقامة إسرائيل الكبرى، والسيطرة على المقدّسات، وبناء على تعاليم مسيحيّة متطرفة كتلك التي تبنّاها جورج بوش الابن عندما احتل أفغانستان والعراق، والقضاء على كل قوة صاعدة مهما كلف ذلك الأمر، والاستيلاء على ثروات الشعوب في المنطقة.
لقد وضعت أمريكا وإسرائيل ومجموعة من الدول التابعة نصب أعينها ما يملكه الحزام العربي والإسلامي، ومنطقة الكاريبي وآسيا عموما من ثروات طبيعية وبشرية هائلة وعملت منذ زمن على التخطيط من أجل قمع كل حركة تدعو للتحرّر والتحرير، بل إنها وضعت مخطّطات لقلع كل فكرة لها جذور تحررية ولذلك هي تحارب كل نضال مهما كان نوعه إذا دعا إلى عدم الاستسلام، لأن فكرة استسلام الآخر متجذرة في العقل الأمريكي والصهيوني على السواء، ولكن بانت وظهرت أكثر اليوم مع نتنياهو وترامب عندما اتحدا في الفكرة والتنفيذ والتخطيط.
غياب الديمقراطية في العلاقات الدولية
والذي جعل الدولتين تشهران السلاح في وجه كل دولة ترغب في التحرر، ولا تلتزمان بممارسة الديمقراطية في العلاقات الدولية، بداية الانهيار الاقتصادي لكلا البلدين حسب جميع المؤشرات الاقتصادية والشعور بضعف العرب والمسلمين في معالجة قضاياهم لا سيكا القضية الفلسطينية، فلا جامعة الدول العربية قادرة على حمايتها ولا منظمة التعاون الإسلامي تستطيع المواجهة ولا حتى التفكير في الرد المناسب، ولا أي تكتل مهما كان نوعه فكر في الرد عليهما، بل إن القوة هي السائدة، وعندما انفردت أمريكا بكل دولة كانت كالذئب الذي يأخذ من الغنم القاسية والشاردة في بحر من الضياع والتيه، ولذلك تنمّر نتنياهو على فلسطين كلها، فلم يكتف بغزة وتدميرها بل سعى لضم الضفة كلها، ولا يبقى للفلسطينيين شيء على الأرض، بل ويسعى لتدمير سوريا والأردن ومصر والسعودية والحبل على الجرار. وتنمّر ترامب على فنزويلا وكولومبيا المعارضتين لسياساته، وتنمّر أردوغان على سوريا في عهد بشار الأسد، وتنمر بوتين على أوكرانيا، وكلهم يسعون إلى حزام أمان يضع دولهم في أمان، بينما الأهداف الحقيقية لهذه التصرفات تختفي وراء ستار ويعمل كل هؤلاء في بوتقة واحدة لتحقيق مآرب أخرى.
فأمريكا اليوم وهي ترسخ فكرة القوة لتحقيق السلام، ورئيسها يسعى للحصول على جائزة نوبل للسلام، إنما ترسّخ لمبادئ الهمجية والسيطرة العنفوية وتسمح لأي دولة كبرى أو تملك قدرات قتالية عالية بأن تتعدى حدودها وتعتدي على أي دولة تراها بنفسها مارقة أو خارجة عن القانون الدولي لتغيير نظامها السياسي بالقوة لأنه ببساطة لا يروق لها أو أنه يسبب لها إزعاجا، فأي دولة ضعيفة لا تملك تلك القدرات في العالم إما أن تتبعها أو أن تعرّض نفسها للدّمار والنهب وهو ما حصل ويحصل اليوم في عدة دول عربية وأجنبية. لكن الأمر قد ينقلب إلى ضده فتظهر حركات ثورية قوية يمكن أن تغير وجه العالم الذي يريد أن يغيرّه ترامب ونتنياهو إلى حيثما أرادا.



شارك رأيك