المكان الطبيعي للأستاذ أحمد نجيب الشابي هو مدارج الجامعات التونسية

أن يدخل الأستاذ أحمد نجيب الشابي السجن في سن 81 سنة، بعد أكثر من ستين سنة من النشاط السياسي المدني والسلمي في “البيئة” التونسية، هذا نبأ يحزنني شخصيا. ولأن حزن مواطن بسيط مثلي في سن 73، مسألة غير جديرة بالاهتمام لأنها شخصية ولا تهمّ القرّاء، فلذلك قررّت تجاوز الحزن وترشيده بكتابة نصّ متواضع أعرضه على كل ضمير أمين، لأستعرض فيه ما علق في ذاكرتي عن هذه الشخصية الوطنية، وأذكر ما أعرفه عن بعد عن الأستاذ أحمد نجيب الشابي.

المهدي الجندوبي *

لست من أصدقاء أحمد نجيب الشابي ولست من أنصاره ولم أمنحه يوما صوتي في العديد من الانتخابات التي خاضها هو شخصيا أو حزبه، ولم ينلني شرف أن أكون من زملائه، ولست سياسيا وإن كنت أهتم وأتابع السياسة بحكم مهنتي، وأقصى ما تربطني بالأستاذ بعض الكلمات المعدودة، تبادلناها عندما حضرت ندوة نظّمها حزبه أو جريدة “الموقف” في التسعينات من القرن الماضي، حول حرّية الصحافة على ما أظن، زمن الرئيس السابق بن علي.

ما هو وزن الفنان علي الرياحي في تاريخ الأغنية التونسية الحديثة،وما هو وزن اللاّعب نبيل معلول أو المدرّب الشتّالي في تاريخ الكرة التونسية، وما هو وزن البشير خريف أو العروسي المطوي في الأدب التونسي؟

إذا استطعنا الإجابة عن هذه الأسئلة، وقتها يمكن بالقياس أن نقول من غير إفراط، هكذا تقريبا يكون وزن أحمد نجيب الشابي في الحياة السياسية في بلدنا وفي كل ما يدخل ضمن ما يسمّى عادة “الحياة العامة” في تونس منذ أكثر من نصف قرن، لأنه انشغل بالسياسة وهو طالب يساري-قومي ودخل السجن فترة الزعيم الحبيب بورقيبة وعرف المهجر ومارس المعارضة الرّسمية العلنية، مطلع الثمانينات من القرن العشرين حين سمح بورقيبة بانفتاح جزئي على المعارضة سنة 1981، وواصل نفس الدور تقريبا تحت حكم الرئيس بن علي وقبل بالحدود الضيقة التي فرضها بورقيبة وبعده بن علي، ودخل أوّل حكومة بعد الثورة لفترة وجيزة وانتخب في المجلس التأسيسي سنة 2011، وعاد للمعارضة زمن الترويكا (2011-2013) وعارض مجددا تغيير 25 جويلية 2021، وترأّس منذ سنوات قليلة “جبهة الخلاص” التي تجمع أحزابا وشخصيات ساندت ترشّح الرئيس قيس سعيد سنة 2019 ثم ابتعدت عنه تدريجيا وعارضته.

أحد رموز حركة النضال الديمقراطي

مواقف الأستاذ نجيب الشابي وتحوّلاته و”تقلّباته” السياسية والفكرية التي رواها بالتفصيل في مذكّراته “المسيرة والمسار” الصادر سنة 2022، وخاصّة انتقاله من الرؤية الاشتراكية إلى “الرؤية اللبرالية مع البعد الاجتماعي” كما هو حريص على تدقيقه، يمكن أن تكون موضوع جدل وانتقادات وتساؤلات وليست بالنسبة لي مشغلا ذي بال اليوم، لأن ما يهمّني هو “النّمط السياسي” الذي يجسّمه الأستاذ مع مجموعة أخرى من رفاقه وخصومه فيما تعوّدت الكتابات السياسية التونسية بتسميته “حركة النضال الديمقراطي”، الذي انطلق نهاية الستينات وتواصل إلى 14 جانفي 2011 وساهمت فيه شخصيات عديدة متعاونة ومتصارعة نذكر منها للمساعدة على توضيح “القامات والأحجام”، بصفة تقريبية فقط: أحمد المستيري، حسيب بن عمّار، محمد حرمل، محمد الشرفي، خميس الشمّاري، د.منصف المرزوقي، هشام سكيك، حمّة الهمّامي، صالح الزغيدي، الطيّب البكّوش وغيرهم.

فما هي مقوّمات هذا النمط الذي يجّسمه أحمد نجيب الشابي مثله مثل غيره من نخبة النّخبة السياسية التونسية المعاصرة؟

الخاصية الأولى هي الامتداد التاريخي للممارسة السياسية المنتظمة، فهو عاصر أربعة أنظمة تعاقبت على قيادة بلدنا الأمين.

كذلك نوعية مساهمته السياسية، فهو يجمع من ناحية بين الفعل السياسي الكلاسيكي من تنظّم وكتابة مناشير وتوزيعها سرّيا ومساهمة في الانتخابات وإقامة في السجن، ويتدخّل من ناحية ثانية فكريا عبر كتابات راقية بالعربية والفرنسية أصبحت الآن جزءا من التراث السياسي في تونس. والجمع بين العمل السياسي والكتابة ليست ظاهرة كثيرة الانتشار في بلدنا.

براعة بيداغوجية نادرة

ومن أهمّ مساهماته الفردية والجماعية مع قلّة من رفاقه، مثل الصحفي والسياسي رشيد خشانة، بعث جريدة “الموقف” ورعايتها في ظروف صعبة لتكون من الفضاءات القليلة التي تسمح بنشر الآراء والأخبار غير الرسمية منذ صدورها سنة 1984 إلى احتجابها سنة 2011، وإن كانت جريدة حزبية تصدر عن الحزب الديمقراطي التقدّمي، فقد تميّزت بانفتاحها على طيف عريض من المساهمات الفكرية والايديولوجية المتنوّعة، وتدرّب فيها على الكتابة في الشأن العام، العديد من السياسيين الذين لم يكونوا من مناضلي الحزب آنذاك.

قرأت العديد من كتابات الأستاذ الشابي واستمعت إلى العديد من تسجيلاته الصّوتية والمصوّرة وكلّ مساهماته تتميّز بلغة تجمع بين العامية المهذّبة والفصحى الإعلامية المبسّطة، يدمج فيها ببراعة بيداغوجية نادرة في بلدنا، ما يناسب من أحداث ومفاهيم سياسية يجعلك، سواء كنت من أنصاره أو من خصومه تستفيد من تحاليله وان كنت ترفض مواقفه، لأنه يخاطب عقلك بالدرجة الأولى. ويشدّني شخصيا هدوء أسلوبه وحرصه على توظيف الحجج المتعدّدة وتعامله الحضاري مع ألدّ الخصوم السياسيين، وقد تكون هذه بديهيات، لكنها كثيرا ما تغيب عن خطاب سياسي تونسي متشنّج، يسود فيه التوتّر والانفعال بدعوى الحماس والإيمان بالقضية، وتسيطر عليه الشتيمة وشيطنة الخصم لتصبح الحجة “الدامغة” وكأنها حجارة تلقى في وجه الخصوم.

ألأستاذ أحمد نجيب الشابي مثل مجموعة قليلة من رفاقه وخصومه السياسيين الذين هم على قيد الحياة، ساهموا في أعطاء مصطلح “المواطنة” معنى أرقى من أن تكون حاملا لبطاقة تعريف وحاملا لشهادة علمية، أفق حلمك لا يتجاوز إسعاد أسرتك وتأمين عيشها وامتلاك بيت وسيارة وتزويج أبنائك. فهم دخلوا السجن ووزّعوا المناشير في زمن لا يوجد فيه فايسبوك، وكتبوا مقالات ونظّموا ندوات ومظاهرات، من يحضرها لا يتجاوز العشرات القليلة، لكنّهم افتكوا مساحة تعبير مستقلّ ومتحرّر بثمن من التضحية والصبر والحيلة والقبول بالهامش القليل المسموح رسميا، لخلق ثغرة تمرّ عبرها أصوات من لا صوت لهم وأحلام من أدخلتهم دولة الاستقلال المدارس، ومنعت عنهم التفكير خارج لجان الحزب الحاكم.

المسكّنات لا تعفي من تطوّر المرض

دخول الشيخ أحمد نجيب الشابي إلى السجن، بدلا من أن يكون ضيف الجامعات ومدارجها، مع شيوخ آخرين من السياسيين يقدّمون للشباب عصارة تجاربهم، كما نرى ذلك في دول متحضّرة عديدة، ويساعدوهم على تعلّم الجدل والسجال المدني والسّلمي، ستكون له نتيجتين على المدى المتوسّط والبعيد:

أوّلها وأخطرها أن ييأس الشباب من الاعتدال ومن العمل السياسي طويل النفس ومن نهج “اللّياقة السياسية” في التعامل مع الخصوم، ويدخل الشكّ في نجاعة السلاح الشرعي الوحيد في دولة مدنية عصرية، وهو الكلمة التي تحمل فكرة، والفكرة التي تتحوّل إلى فعل، والفعل الذي يخلق النماء.

أما الثانية وهذه مفارقات التاريخ تتكرر عبر العصور، فوضع المعارض في السجن يريح بال السلطة من “وجع الرأس” وقتيا، لكنّه بالضرورة يضفي هالة مضاعفة، ويقوّي الرصيد الرّمزي للمعارض في وعي الناس، ويتحوّل إلى “أيقونة” ستتضاعف جاذبيتها و”قدرتها على الإزعاج” لاحقا. فمسكّنات اليوم لا تعفيك من تطوّر المرض غدا. ليت كل مسؤول مؤتمن على مصير هذا البلد الأمين، يفكك هذه الشفرة، وكان الله في عونه.

أستاذ جامعي تخصص صحافة.

شارك رأيك

Your email address will not be published.