الخطاب الذي يليق بالسياسة هو ذاك الذي يصنع معنى، ويؤسّس نقاشًا عامًا راقيًا، ويستمدّ شرعيته من قوة الفكرة لا من صخب المنبر. خطاب يحترم الناس، ويدعوهم للنظر إلى المستقبل بثبات، دون التنكّر للماضي أو القطع مع تقاليده الأصيلة. والشخصية السياسية التي نتأملها هي التي تمتلك عمقًا فكريًا ومرجعية ثقافية واسعة، تكتب وتؤلف، وتستطيع أن تربط بين النظرية والممارسة. وهذا النموذج ليس حكرًا على الغرب، بل له جذور راسخة في التجربة التونسية والعربية أيضًا.
العقيد محسن بن عيسى *

لعب الخطاب السياسي منذ دولة الاستقلال، وفي محطات متعدّدة، دورًا مهمًّا في بناء الدولة وصياغة الرأي العام. ثم، ومع الصراعات على الخلافة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، شاع استعمال ما يُعرف بـ”اللغة الخشبية”، وتكرّست بشكل لافت لدى عدد من الطامحين إلى الصعود السياسي. فالخطاب، كما نعلم، يمتلك “سلطة رمزية” ويخضع لقواعد اتصال كانت تُسمّى آنذاك “إعلامية”. ومع ذلك، برزت استثناءات موهوبة في طلاقة اللسان وفي القدرة على التأثير، كما رأينا لدى الزعيم الحبيب بورقيبة والبعض من رجاله.
بعد 2011، اتّسعت مساحات الخطاب السياسي والإعلامي المباشر والعلني، وتطوّر التواصل داخل المؤسسات ومع عموم المواطنين، لكن النتيجة لم تكن دائمًا إيجابية. الحرية وحدها لا تضمن خطابًا راقيًا. لقد اختلطت الأوراق واختلّت المعايير، وتحوّل الخطاب شيئًا فشيئًا من عامل بناء للهوية ومن أداة للتعبير عن الثقافة السياسية، إلى أداة نفور من الشأن العام.
إيقاظ الوعي والدفع إلى التفكير النقدي
لفت انتباهي مؤخرًا تدخل سياسي فرنسي ورئيس حزب معروف أمام لجنة برلمانية فرنسية. تابعت المداخلة وما كُتب حولها، ووجدت في بعض التعليقات ما يستحق أن يُستعار ليفتح التفكير في ما نحتاجه نحن، وما ينبغي أن نطالب به نُخبنا. وكيف ننتج “المثقف السياسي” في سياق تونسي معاصر؟
لقد تميّز المتحدّث بحضور يلفت الانتباه، ويكشف عن ثقافة واسعة تمتد من التاريخ إلى مختلف المرجعيات الفكرية التي يستند إليها في قراءاته وتحليلاته. هو مثقّف منخرط بالفعل، صاحب مؤلفات ومقالات تعبّر عن أفكار يدافع عنها بانسجام واقتناع. وبغضّ النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معه سياسيًا، فمكانته الفكرية تبقى ثابتة يصعب إنكارها، خاصة مع قدرته على إيقاظ الوعي ودفع الناس إلى التفكير النقدي وطرح الأسئلة حول العالم الذي نعيش فيه.
الخطاب الذي يليق بالسياسة هو ذاك الذي يصنع معنى، ويؤسّس نقاشًا عامًا راقيًا، ويستمدّ شرعيته من قوة الفكرة لا من صخب المنبر. خطاب يحترم الناس، ويدعونا للنظر إلى المستقبل بثبات، دون أن يتنكّر للماضي أو يقطع مع تقاليده الأصيلة.
والشخصية السياسية التي نتأملها هي التي تمتلك عمقًا فكريًا ومرجعية ثقافية واسعة، تكتب وتؤلف، وتستطيع أن تربط بين النظرية والممارسة. وهذا النموذج ليس حكرًا على الغرب، بل له جذور راسخة في التجربة التونسية والعربية أيضًا.
ضابط متقاعد من الحرس الوطني.



شارك رأيك