محمود محمد طه : المفكر الذي قُرئ بلا أن يُذكر اسمه

ظل اسم محمود محمد طه بعيدًا عن النقاش الفكري في العالم الإسلامي لعدة عقود. وُلد طه عام 1909 في السودان، وعُرف بنشاطه الفكري والاجتماعي منذ شبابه، فأسس حركة النهضة الحديثة التي سعت لتجديد الفكر الإسلامي وفهم القرآن في سياقه الإنساني العام. لكنه تعرض لمضايقات سياسية ودينية، انتهت بإعدامه عام 1985، بعد أن أُتهم بالتجديف بسبب مشروعه المعروف باسم الرسالة الثانية من الإسلام.

جمال قتالة

ورغم هذا الإقصاء، بدأت بصماته الفكرية تظهر تدريجيًا في الخطاب الإصلاحي الإسلامي، وغالبًا بدون أن يُذكر اسمه صراحة. وهو ما يجعل من محمود محمد طه حالة فكرية فريدة: رجل تم تهميشه، إلا أن أفكاره أسست لخطاب تجديدي ظهر في أعمال مفكرين لاحقين حول historicité الشريعة، مركزية الآيات المكية، الحرية الفردية، والديمقراطية.

الأكاديميون الذين تناولوا فكره لم يدافعوا عنه بعاطفة، بل بالمنهج العلمي. يقول الدكتور سلمان البدور، الرئيس السابق لجامعة آل البيت في الأردن، إن طه «خلق منهجًا جديدًا في التأويل»، واصفًا إياه بـ «سقراط العصر الحديث»، الذي دفع حياته ثمنًا لأفكاره. ويضيف: «أهمية دراسة أفكاره اليوم تكمن في عمق تأثيرها ورؤيتها المستقبلية للإسلام».

أقصى سقف للتجديد الديني

وينسجم هذا الرأي مع ما ذكره الأستاذ العراقي جعفر نجم نصر، الذي رأى أن طه قدم «أقصى سقف للتجديد الديني»، مستحيل تجاوزه دون الخروج عن الإسلام نفسه. ويشير نصر إلى أن الغرابة والأصالة كانتا سمتين أساسيتين في مشروع طه، اللتين تميّزت بهما كتاباته البالغة 34 كتابًا ومئات المقالات والمحاضرات.

مشروع طه يقوم على فكرة أساسية: القرآن كتاب عالمي للإنسانية، والآيات المكية تمثل الرسالة الأصلية التي يمكن أن تُطبق على كل زمان ومكان، بينما الآيات المدنية مرتبطة بسياق القرن السابع، وغير قابلة للتطبيق حرفيًا اليوم. لذلك دعا طه إلى «رسالة ثانية» للإسلام، قائمة على الحرية الفردية، العدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر، بعيدًا عن أي مقاربة تقليدية للشريعة.

وقد لاحظ عدد من الباحثين انعكاس هذا النهج في أعمال مفكرين آخرين، دون اقتباس مباشر. يشير الشيخ حيدر حب الله، أستاذ في الحوزة العلمية بقم، إلى أن قراءة طه التاريخية للشريعة تركت أثرًا واضحًا في فكر نصر حامد أبو زيد، ليس في النصوص نفسها، بل في روح الفكرة. أما المرجع الديني العراقي كمال الحيدري، فقد أشار عام 2017 إلى أن نظرية محمد شحرور حول عدم قابلية تطبيق التشريع القرآني للقرن السابع في عصرنا مستوحاة من المبادئ الأساسية التي صاغها طه.

«الجدار العازل» للسردية التكفيرية

ظل الإقصاء طويلاً بسبب ما وصفه الباحثون بـ «الجدار العازل» الذي بناته تحالفات دينية وسياسية، مع سردية تكفيرية حالت دون دراسة أعماله. غير أن هذا الجدار بدأ يتصدع، فاليوم أصبح طه مادة أكاديمية يُدرَّس في أكثر من 20 جامعة في العالم الإسلامي، و18 أطروحة علمية على الأقل كُتبت حول مشروعه، مع اهتمام متزايد بالبحث في الرسالة الثانية من الإسلام.

ويكمن جاذبية مشروع طه في أنه لم يكتف بإعادة تفسير النصوص، بل قدم بديلًا حضاريًا: حداثة أخلاقية تجمع بين الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية، الروحانية والديمقراطية، والمساواة بين البشر بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الأصل. وصفه الفيلسوف الأمريكي كورنيل ويست بأنه «ثرّ وثوري»، مؤكدًا دوره في دمقرطة الفكر الإسلامي من الداخل.

كما أن طه لم يقتصر على طرح المبادئ النظرية، بل قدم برامج عملية للنهضة الاجتماعية والسياسية، بما فيها تحديث التعليم، تمكين المرأة، وإصلاح القانون المدني، مؤكدًا أن أي مجتمع لا يجمع بين الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية لن يحقق الحياة الكريمة.

اليوم، لم يعد محمود محمد طه مجرد شخصية تاريخية، بل مؤشر حاضر على حالة الوعي الفكري في العالم الإسلامي. إعادة اكتشافه اليوم ليست مجرد إنصاف لمفكر أُعدم، بل اختبار لذاكرة فكرية طالما تغاضت عن أبرز من حملوا شعلة المستقبل. إن قراءة مشروعه اليوم تكشف عن الأفكار التي سبق أن تحققت جزئيًا لدى مفكرين آخرين، لكنها كانت تنتظر الاعتراف بها والاحتفاء بها في المؤسسات الأكاديمية.

شارك رأيك

Your email address will not be published.