بقلم رضا بالحاج
تعيش تونس اليوم أزمة انتقال ديمقراطي ولا أوافق الكثير ممّن يعتقدون أن البلاد تعيش أزمة نظام سياسي أو انتخابي، وهذه الأزمة ناجمة عن انحراف الحزبين المؤتمنين على الحكم عن الالتزام بمقتضيات الديمقراطية بما هي احترام الدستور وتأمين نجاح الانتقال الديمقراطي الذي أصبح اليوم مهدّدا أكثر من أي وقت مضى ومظاهر ذلك متعدّدة، من انحراف النظام السياسي إلى نظام رئاسوي فعلي إلى عودة حزب الدولة وتوظيف الإعلام والقضاء الخ …
وآخر المظاهر التي تهدّد سلامة الانتقال الديمقراطي هي قرار الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات التراجع عن اعتماد الحبر الانتخابي بمناسبة الانتخابات البلدية المقبلة وهو قرار خطير لم يقع الوقوف ضدّه إلى حدّ الآن.
فقضية الحبر الانتخابي هي في صميم العملية الديمقراطية التي تعيشها تونس منذ سنة 2011 واعتماد هذه الضمانه الإضافية لتأمين نزاهة الانتخابات لم تأت من فراغ بل من تفكير عميق قامت به الهيئة العليا المستقلة للانتخابات سنة 2011 ودراسة لظروف العملية الانتخابية وما يحفّ بها من مخاطر كما أن استعمال الحبر الانتخابي كان كذلك بدفع من الحكومة الانتقالية آنذاك باعتبار أنّ الحكومة هي كذلك ساهرة على نجاح العملية الانتخابية، وهو ما تم كذلك سنة 2014 مع حكومة الحوار الوطني واستعمال الحبر الانتخابي أثناء عملية الاقتراع لم يكن نابعا كذلك من مقتضيات سياسية بل كذلك من مقتضيات قانونية.
فالمرسوم عدد 27 لسنة 2011 المؤرّخ في 18 أفريل 2011 المتعلّق بإحداث هيئة عليا مستقلة للانتخابات نصّ على أنّ الهيئة تسهر على ضمان انتخابات ديمقراطية، تعدّدية، نزيهة وشفافة وهو نفس الفصل الذي تضمّنه القانون الأساسي عدد 23 لسنة 2012 المؤرّخ في 20 ديسمبر 2012 والمتعلّق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات كما تم تنقيحه.
وقد عملت الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات في انتخابات 2011 و2014 على حسن تطبيق هذا المبدأ باعتمادها الحبر الانتخابي وذلك من خلال قرارها المؤرّخ في 6 أكتوبر 2011 و بقرارها عدد 30 لسنة 2014 المؤرّخ في 8 سبتمبر 2014 المتعلّق بقواعد وإجراءات الاقتراع والفرز.
فقرار الهيئة الحالية بعدم اعتماد الحبر الانتخابي تمّ بمقتضى مداولة مجلس الهيئة المنعقدة بتاريخ 29 جانفي 2018 وأدمج في إطار مسائل مختلفة ضمن جدول الأعمال وتمّ اتخاذ القرار ضمن النقطة الرابعة على النحو التالي : “رابعا : بالنسبة إلى الحبر الانتخابي قرّر المجلس عدم اعتماده خلال الاقتراع في الانتخابات البلدية وقد أبدى كلّ من السيد نبيل بافون وفاروق بوعسكر عضوا الهيئة اعتراضهما على هذا القرار وتمسّكا بضرورة عدم الاستغناء عن الحبر الانتخابي يوم الاقتراع”.
فالقرار جاء دون تعليل وفي جنح الظلام ما عدى بعض التصريحات لبعض أعضاء الهيئة مفادها أن الحبر الانتخابي لا يتماشى مع ما وصل إليه الناخب من تحضّر وهو بذلك يخرق أحكام الفصل عدد 2 من القانون الأساسي عدد 23 لسنة 2012 المؤرّخ في 20 ديسمبر 2012 المتعلق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات كما تم تنقيحه والذي جاء فيه أن الهيئة تسهر على ضمان انتخابات واستفتاءات ديمقراطية حرّة، تعدّدية، نزيهة وشفافة.
إذ ذلك يدخل الريبة ويعزّز الشكوك المتصاعدة حول نزاهة هذه الهيئة وحيادها، فاستعمال الحبر الانتخابي ليس مرتبطا بمدى تحضر الناخب بل هو مرتبط بمدى توفر محيط انتخابي يضمن سلامة العملية الانتخابية من جميع جوانبها، فمرور تونس بمرحلة انتقالية مازالت تعيشها إلى اليوم واستمرار بعض محاولات العودة إلى أساليب قديمة في التعامل مع العملية الانتخابية وعدم قدرة جل الأحزاب السياسية ومكونات المجتمع المدني على مراقبة جميع جوانب العملية الانتخابية تجعل من استعمال الحبر الانتخابي ضمانة إضافية لنزاهة الانتخابات.
كما أنّ الانتخابات البلدية تحتّم استعمال الحبر الانتخابي نظرا للعدد الكبير لمراكز الاقتراع وتشتّت وتعدد نقاط الفرز وشدّة التنافس بين القائمات، مما يجعل القيمة الانتخابية للصوت الوحيد تتجاوز قيمة الصوت في الانتخابات التشريعية والرئاسية.
أمّا الانتخابات التشريعية والرئاسية فهي بالضرورة تستدعي استعمال الحبر الانتخابي باعتبار أن عملية الاقتراع تشمل التونسيين بالخارج الذين يمكنهم استعمال جواز سفر أو بطاقة التعريف وهو ما يحتم استعمال الحبر لضمان نزاهة العملية مثلما أوجبه القانون على الهيئة.
إنّ قرار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات القاضي بعدم استعمال الحبر الانتخابي يعتبر قرارا غير قانوني، باعتبار أنّ القانون حمّلها مسؤولية السهر على ضمان انتخابات ديمقراطية وحرة وتعدّدية ونزيهة وشفافة وهو قرار غير مسؤول باعتبار أن هذا القرار لم يحظى بالتوافق بين أعضائها ولم يقع التّشاور بشأنه مع الأحزاب ومع مكوّنات المجتمع المدني المعنية بالعملية الانتخابية.
من جانب أخر فإن قرار التخلّي عن الحبر الانتخابي مشوب بعيب تجاوز السلطة ذلك أن هذا القرار لا يعود إلى السلطة التقديرية للهيئة إذ أن القانون حمّلها مسؤولية ضمان نزاهة الانتخابات ألزمها باتخاذ قرارات تحمي سلامة العملية الانتخابية وعدم التصرّف في شروطها الأصلية وليس تعريض العملية إلى مخاطر.
كما أن المسؤولية ترجع كذلك للحكومة التي ولئن كانت غير معنية مباشرة بالعملية الانتخابية فإن من واجبها السهر على حسن سير هذه العملية وهو ما قامت به حكومات 2011 و2014 إلاّ أن الفارق أن الحكومة الحالية هي حكومة محاصصة حزبية همّها البقاء في السّلطة وربّما يساعدها مثل هذا القرار.
تبقى مسؤولية الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني المعنية بالعملية الانتخابية التي من واجبها اليوم أن تشهّر بهذا القرار وتستميت إلى حين التراجع عنه وعليها أن تبادر بالطّعن فيه لدى القضاء لإلغائه وتوقيف تنفيذه نظرا لعدم شرعيّته وتداعياته الخطيرة على العملية الانتخابية والانتقال الديمقراطي.
شارك رأيك