يكتبها فرحات عثمان
يبدأ اليوم شهر الصيام، رمضان المعظم الذي سمّي، على الأشهر، بهذا الإسم للرمض، أي الحر، واشتداده فيه نظرا للامتناع عن الأكل والشرب.
ونحن نفضل أصل التسمية حسب الروحانيين القائلين أنها من الرمضاء لأن قلب المؤمن في رمضان يأخذ من حرارة الموعظة والتأمل في أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس.
فإن شاء الله يكون رمضان هذه السنة عاد حقا بحرارة الإيمان لا بما عهدناه من مراءاة؛ ولسوف نسهر على معاينة ذلك في هذه اليوميات التي نستفتحها على بركة الله وبتسهيل منه.
هل للتقوى زمنها ؟
لعل لقائل أن يقول لماذا مثل هذه الحرارة التي هي ذروة الإيمان في شهر بذاته؛ فهل للتقوى زمنها كما هو الحال في التجارة اليوم؟ أليست هي لكل زمن كما هي في كل مكان؟
نعم، لقد اعتاد أهل الإسلام تمييز شهر رمضان المعظم عن سائر أشهر السنة الهجرية الأخرى نظرا لأنه شهر بدء الوحي في ليلة القدر منه.
إلا أن الثابت أن هذه الميزة لا تتناسب ضرورة مع روح الإسلام الذي ليس فيه، كما عهدناه في اليهودية والمسيحية، التقديس للتاريخ وللمناسبات. ففي الإسلام، ليس الأفضل إلا الأتقى، أيا كان أصله وفصله وأيا كان زمن ومكان كسبه التقي.
هل إذن في تحديد التقوى بيوم أو شهر فضيلة خاصة إذا نقصت حرارتها فيه عن حرّها في سائر الأيام الأخرى؟ بل أليس في مثل هذا التخصيص لزمن محدد لمظاهر التقوى التقليل من حرارتها وصدق النية فيها؟
تقوى القلب وتقوى الجوارح :
إن الإسلام صراحة تنصّل من المظاهر الخادعة وبيّن أن التقوى أساسا روحانية؛ وهذا ما علمه جيدا أهل التصوف فشرّعوا لتقوى القلب وأعلوا مكانتها عن تقوى الجوارح.
إن تقوى القلب لكمونها في النفس، لا يراها إلا الله، لأعلى كعبا من تقوى ظاهرة للعيان؛ فلا مغالطة في الأولى، إذ ليس لها تجليات مادية، بينما في الثانية تؤثر فيها نظرة الناس والرغبة البشرية، خاصة عند العربي، الحريص على لفت النظر والإعجاب.
ولا شك أن الإسلام الصادق لهو بخلوصه لله وحده في صدق السريرة وحسن النية. فهل يبقى إسلامنا صادقا ما دامت النية فيه مرتهنة برسوم لعلها زائفة؟
الفاتحة الهجينة لرمضان :
ولعل من هذا الزيف مسألة الرؤيا بالعين المجردة لتحديد بداية شهر الصيام، فهي أفحش ما ثبت عند أهل الرسم من الفقهاء، لأن فيها النفي الصارخ والرفض الفادح لتعاليم ديننا الذي كاد يجعل فريضة عينية من الأخذ بالعلم.
لا شك أيضا أن في هذه العادة المشينة بروح الدين ومقاصده النفي الأفدح لقيمة النية في الإسلام. فالنية الصادقة الصدوق هي أس كل شيء في الإسلام؛ لذا، فالصوم بنية الصوم، أيا كانت بدايته، لهو الصوم الصحيح، ما دام العلم أو الجمهور قال بظهور هلال الشهر. هذا الأصح من صوم حسب أمر الفقيه أو قرار المفتي، حتى كأنه وجب على الإسلام أن يرتهن برأي كهنة أوأصحاب نفوذ غدت قساوسة وأحبارا في الإسلام؛ فأي شيء بقي عندها منه بما أنه امتاز بالعلاقة المباشرة بين الله وعبده؟
هل ما زال رمضان إسلاميا وهو على هذه الشاكلة من التقنين والرسوم التي تفرغه من لب لبابه؟ هل في رمضان هذا التهافت على الأكل والتكالب على الكسل والعزوف عن العمل بتعلة مشقة الصوم؟ ألم يجعل الله كفارات لذلك؟ لم الصوم عندما يحصل الضرر للنفس وللغير؟ أليس ذلك عين الحرام؟
الفاتحة الحميدة لرمضان :
رمضان هذه السنة كان الفرصة السانحة لرئيس الجمهورية لإقرار سنة جديدة لم نعرفها قبله، وهي تتمثّل في العفو على بعض المساجين بمناسبة فاتحة الشهر الفضيل. فكانت البداية بالعفو على عدد ممن تعلّقت بهم قضية عدلية في تعاطي مخدر القنب الهندي لأول مرة (382 نفرا).
لا شك أن هذه البادرة حميدة، وهي مما يُذكر فيشكر. إلا أنها للأسف تتنزل في خانة العمل بالأقل نفعا درءا للعمل بالأكثر فائدة، بينما العكس هو الأصح في فقهنا. فخاصية الشريعة الإسلامية هي التيسير ورفع الحرج، حتى أن الإمام الشاطبي، صاحب النظرية المقاصدية التي أحدثت ثورة في الفقه الإسلامي، قال « إنّ الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمَّة بلغت مبلغ القطع».
لم يكتفي إذن الرئيس بعفو لا يمحو الذنب، بينما لا ذنب للشباب في تعاطي القنب الهندي الذي ثبت علميا أن خطره على الصحة أقل بكثير من خطر التدخين؟ أليس من العدل عدم التفريق بين المدخن ومتعاطي القنب الهندي؟ أليس من الظلم الفاحش معاقبة الثاني دون التعرض للأول، بينما الإسلام دين العدل والمساواة؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لم الاكتفاء بالعفو، وهو الفصل، عوض التعرض للأصل، أي إبطال القانون؟ أليس هذا من التعسير عوض التيسير المفروض دينيا، علاوة على التنصل من المسؤولية في إحقاق الحق ونصرة المظلوم ؟
فلقد ثبت ظلم القانون الحالي للمخدرات وحصل أيضا من الرئيس الوعد بإلغائه، وها هو يتركه على حاله فلا يسرّع في إجرءات الإبطال؛ بله يقبل بمشروع قانون في الغرض لا يفي بالحاجة، إذ لا يرفع الظلم المسلط على شبيبة ليس جرمها إلا تعاطي ما ليس بأخطر على صحتها من تدخين سيجارة !
إن ديننا لهو الحنيفية السمحة، وهذا النعت له، كما بيّن ذلك الإمام الشاطبي، للتدليل على ما فيه من التسهيل والتيسير؛ فهلا تذكّرنا هذا وعملنا على الأخذ حقا بتعاليمه وابتعدنا عن الإساءة له؟ عسى أن يكون هذا الشهر الفاتحة لعودة الوعي لنا !
هذا إذن، إن شاء الله وبعونه، استهلال للشهر ولهذه الرمضانيات، نحاول فيها تثمين الحسنـى فيه أو رصد البعض من التجاوزات المخلة بروح الدين في مجتمعنا وتصرفاتنا وقد استشرت عندنا. وليكن هذا من باب التذكير بحقيقة دين أضاعه أهله أخذا بما ليس منه، وبخاصة تلك الإسرائيليات التي شوّهت سماحته عبر تاريخه المجيد.
وإلى الغد، اليوم الثاني من رمضان الكريم الذي تكون، إن شاء الله، له عودة باليمن والبركة للجميع، صاموا أو لم يصوموا، لأن الكل لله وبالله، الهادي أو غير الهادى إلى محجته، لوحده وحسب مشيئته !
شارك رأيك