بقلم أحمد بن مصطفى
تتوالى التقارير والتصريحات الصادرة عن البنك المركزي التونسي وعن الحكومة التي تؤكد على قتامة أوضاع الاقتصاد التونسي في ظل التدهور المستمر لكافة المؤشرات .
ويأتي ذلك بالتوازي مع تدهور كافة الموازين المالية والتجارية وتراجع نسبة النمو في القطاعات الانتاجية إلى مستويات غير مسبوقة بفعل حالة الركود والإنكماش التي بلغها الاقتصاد التونسي.
ولا يبدو أن نداءات الاستغاثة وطلبات المساعدة الصادرة عن وزير المالية باتجاه الأطراف الخارجية والمستثمرين التونسيين والأجانب ستجد الآذان الصاغية المأمولة رغم استعداد تونس للاستجابة لكافة «الإصلاحات الهيكليّة» المفروضة عليها منذ 2013 من قبل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي الخاضعين لتعليمات مجموعة السبعة والاتحاد الأوروبي.
لقد دعيت للمشاركة في عديد الندوات والمنتديات المنعقدة على هامش جولة المفاوضات الأخيرة بين تونس والاتحاد الأوروبي بخصوص إتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق، وقد لاحظت في عديد المناسبات تذمر الشريك الأوروبي من ضبابية السياسة الاقتصادية التونسية وانعدام وضوح الرؤية لدى المسؤولين التونسيين وأولوياتهم التنموية في مختلف القطاعات الانتاجية، وطبيعة المساعدة الخارجية المطلوبة بالنسبة لكل مجال من هذه المجالات. وهذه المآخذ لها ما يبررها وهي تلتقي مع انتقادات لاذعة موجّهة من جل الخبراء التونسيين للحكومة بعد صدور الوثيقة التوجيهيّة للمخطط الخماسي للتنمية الفاقدة من حيث مضامينها للمواصفات الدنيا الواجب توفرها في مثل هذه الوثائق التي كان من المفترض أن تحدد ملامح المنوال التنموي الجديد بعد الاقرار بفشل الخيارات والسياسات الاقتصادية المتبعة منذ مطلع التسعينات.
وفي حقيقة الأمر لا يبدو أن الحكومة جادة في ما تدعيه من أنها بصدد إعداد استراتيجيّة جديدة للتنمية والحال أن تونس فقدت استقلالية قرارها الاقتصادي بعد خضوعها لاملاءات صندوق النقد الدولي الداعية لاندماج الاقتصاد التونسي الكلي في منظومة اقتصاد السوق من بوابة توسيع الشراكة والتعاون الشامل الحر مع الاتحاد الأوروبي وتحرير كافة الأنشطة الاقتصادية الانتاجية والخدميّة والفلاحية أمام رؤوس الأموال الأجنبية.
ويجدر التذكير بتصريحات محافظ البنك المركزي إبان زيارة رئيسة صندوق النقد الدولي إلى تونس في سبتمبر الماضي ومفادها أن الحكومة تتطلع إلى تجديد برنامج «التعاون» مع الصندوق بعد انتهاء العمل قريبا بالبرنامج الحالي مطلع سنة 2016.
والملاحظ أن البلدان الصناعية الجديدة الصاعدة هي الوحيدة من ضمن كوكبة دول العالم الثالث سابقا، التي وفقت في الاندماج بنجاح كدول منتجة في الدورة الحالية للعولمة واقتصاد السوق وهي تتموقع حاليا، وعلى رأسها الصين الشعبية، في مقدمة القوى الصناعية المتنافسة مع الغرب على الأسواق العالمية وعلى المناطق والفضاءات الاقتصادية الواعدة في العالم.
أما تونس، فقد ظلت دولة متخلفة اقتصاديا وصناعيا وفلاحيا لأنها إرتضت لنفسها الاكتفاء على خلاف الدول الصاعدة بأن تكون منذ مطلع السبعينات، وأن تظل في المستقبل ـ في إطار التوزيع المعولم للأدوار الاقتصادية على الساحة الاقتصادية الدولية ـ ضمن الدول المصنفة كخزان للأيادي العاملة قليلة التكلفة في اطار الاقتصاديات الريعيّة المتخصصة في أنشطة المناولة ذات القيمة المضافة المتدنية لحساب صغار المستثمرين الأوروبيين.
وبتشبثها بهذه المكانة الاقتصادية المتدنية على الصعيد العالمي، في إطار علاقات الشراكة غير المتكافئة مع الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية، فقدت تونس القدرة على بناء منظومة إنتاجية وطنية صناعية وفلاحية ذات قدرة تنافسية عالية قادرة في مرحلة أولى على كسب مواقع متميّزة داخل الأسواق المحلية وقادرة أيضا على تحقيق الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي من المواد الاستهلاكية الحيويّة وصولا إلى الأمن الغذائي وكذلك الاكتفاء الذاتي العلمي والتكنولوجي الذي بلغته الدول الصاعدة مما مكن هذه الدول من تجاوز مرحلة اقتصاد المناولة الذي ما تزال تتخبط فيه بلادنا ، لتصبح دول صناعية متطوّرة ذات قدرات انتاجية عالية قادرة على تلبيّة حاجيات الأسواق الدولية من السلع الصناعية المنافسة من حيث الجودة والأسعار للسلع الصناعية الغربية.
وهذا ما يفسّر فشل التجربة التنموية التونسية التي جعلت تونس تتحول إلى سوق استهلاكيّة للبضائع المستوردة سواء عبر منطقة التجارة الحرّة للسلع الصناعية المبرمة سنة 1995 مع الاتحاد الأوروبي أو عبر مسالك التهريب والاقتصاد الموازي المتخصصة في السلع الآسيوية المهربة المستحوذة على أكثر من نصف الطاقة الاستيعابية للأسواق التونسية.
وهكذا تحول الاقتصاد التونسي إلى اقتصاد مناولة وخدمات وخسرت تونس معركة بناء اقتصاد صناعي انتاجي وطني يصبو إلى بناء منظومة إنتاجية وطنية وإلى تحديث القطاعات الصناعية والفلاحية والخدمية وصولا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في المجالات الحيوية وإلى الالتحاق بكوكبة الدول المتقدمة .
كما أهملت تونس القطاع الفلاحي وتخلت عن تحقيق أمنها الغذائي وتحولت إلى مجتمع استهلاكي ودولة تابعة إلى الخارج وإلى الاستثمار الخارجي وإلى المساعدات المالية الخارجية لتلبية حاجياتها من المواد الاستهلاكية وفي مجال التشغيل وكذلك في حاجياتها من الاقتراض الخارجي لسد العجز المزمن في الميزانية وتمويل الواردات وحتى تسديد الديون ودفع المصاريف العادية للدولة كما هو الحال خلال السنوات الأخيرة الموالية لاندلاع الثورة.
لكن الأخطر أن تونس فقدت القدرة على جلب الاستثمارات الخارجية حتى بالنسبة للاستثمارات ذات القيمة المضافة المتدنية بل إنها شهدت بعد الثورة لأسباب أمنية واقتصادية موجة عكسيّة أدت إلى مغادرة العديد من المؤسسات باتجاه وجهات استثمارية أخرى. وقد دفع ذلك المسؤولين التونسيين إلى السماح للمؤسسات الأجنبية المصنفة كمؤسسات «مصدرة كليا» ببيع نصف منتجاتها داخل الأسواق التونسية في محاولة لتحفيزها على البقاء بتونس وكذلك لجلب المزيد من هذا الصنف من الشركات وهو ما سيفتح لها المجال للاسحواذ على نصيب الأسد من الأسواق المحلية على حساب ما تبقى من مؤسسات إنتاجية تونسية تحاول الصمود والاستمرار داخل المنظومة الإنتاجية الوطنية.
ومع ذلك تتمسّك الحكومة الحالية بنفس هذه التوجهات الاقتصادية الكارثية الموروثة عن النظام السابق بدليل أنها ماضية في توسيع التبادل الحر مع أوروبا إلى كافة أصناف السلع وفتح الأسواق التونسية وكافة مجالات النشاط الإنتاجي والخدمي والفلاحي دون قيود أمام المستثمرين ورؤوس الأموال الأجنبية وكل ذلك بحجة أن هذا الانفتاح سيوفّر لتونس وللمنتجات التونسية القدرة للولوج بحرية إلى الأسواق الأوروبية الضخمة. غير أن هذه الميزة تبقى وهميّة ونظريّة لأن تونس ليس لها نسيج صناعي متطور ولا منظومة إنتاجية فلاحية وخدمية عصرية ولا طاقات إنتاجية تخوّل لها الاستفادة الفعلية من التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي.
وبالتالي، فإن تونس مدعوة اليوم إلى مراجعة جذريّة لهذه الخيارات الاقتصادية البالية، كما أن الحكومة مدعوة إلى وضع برنامج وطني لإنقاذ الاقتصاد التونسي يرتكز على الخطوط العامة التالية:
ـ السعي إلى استرداد القرار الاقتصادي السيادي الوطني من خلال إيجاد السبل الكفيلة بمعالجة معضلة المديونية المفرطة وما ينجر عنها من تبعيّة إزاء المؤسسات المالية الدولية والقروض والمساعدات المشروطة لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي. ويمكن اللجوء في هذا الاطار إلى طلب تفعيل الآليات والتسهيلات والاعفاءات الممنوحة من قبل نادي باريس والمؤسسات المالية المذكورة للدول المصنفة كبلدان «فقيرة جدا» مستحقة ومؤهلة للاستفادة من التدابير الاستثنائية المعمول بها في مثل هذه الحالات.
ـ السعي إلى إسترداد التوزانات المالية الكبرى للدولة التونسية من خلال العمل على تفعيل وعود مجموعة السعبة بمنح تونس برنامج تمويلات ضخمة بشروط ميسّرة واسترداد الأموال التونسية المنهوبة من قبل النظام السابق علما أن هذه الوعود لم تتجسد بعد على أرض الواقع ويمكن لتونس إعادة طرحها في إطار المفاوضات الجارية لتوسيع الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.
ـ العمل على إعادة الحد الأدنى من التكافئ والتوازن في علاقات التعاون والشراكة مع الاتحاد الأوروبي بما يراعي التفاوت في مستويات النمو وبما يساعد تونس على بناء اقتصاد إنتاجي قادر على الاستفادة من التبادل الحر ومن الإندماج في الفضاء الاقتصادي الأوروبي.
ـ تفعيل أطر التعاون الثنائية مع فرنسا وألمانيا وإيطاليا باعتبار أن هذه الدول تستحوذ على النصيب الأوفر من التعاون ومن الأسواق ومن الفرص الاستثمارية المجدية التي توفرها تونس في مجال استغلال ثرواتها الطبيعية والطاقية. وبالتالي يحق لتونس أن تدعو هذه البلدان إلى مساعدتها على الخروج من أزمتها الاقتصادية وأزمة الديون الخانقة من خلال الإيفاء بتعهداتها في مجال معالجة معضلة المديونية وإعادة الحد الأدنى من التوازن للمبادلات التجارية والمالية والخدمية والاستثمارية مع تونس.
شارك رأيك