هل تنفيذ الإضرابات حتى وإن كانت دستورية ومشروعة هو الحلّ ولا حلّ سواه؟ هل سياسة الهروب إلى الأمام والتصعيد و”العنتريّات” الزائفة والإستعراضية هي من ستنقذ الشغّالين من العوز وقلّة ذات اليد وتجعل من بلادنا “سنغفورة”؟ لا نعتقد ذلك، فالحلّ حتما يكمن في العمل ولا شيء سوى العمل والزيادة في الإنتاج والإنتاجية وخلق الثروة.
بقلم سنيا البرينصي
نفّذ أكثر من 600 ألف موظف في قطاع الوظيفة العمومية، اليوم الخميس 22 نوفمبر 2018، إضرابا حضوريا عن العمل يشمل مختلف الوزارات والإدارات المركزية والجهوية والمحلية التابعة لها، باستثناء أقسام الإستعجالى بالمستشفيات العمومية وخدمات النقل والبريد (ساعتان فقط).
وتمّ تنفيذ الإضراب بساحة باردو أمام مقرّ البرلمان بالعاصمة، وبدعوة وتحشيد من الإتحاد العام التونسي للشغل الذي يطالب الحكومة بالزيادات في الأجور لمنظوريه بقطاع الوظيفة العمومية.
وتقرّر الإضراب العام في قطاع الوظيفة العمومية عقب فشل المفاوضات التي جمعت بين قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل ورئيس الحكومة يوسف الشاهد, حيث رفض رئيس الحكومة الزيادات في الأجور التي تطالب بها قيادة اتحاد الشغل.
الإضراب العام حق يكفله الدستور والية أو وسيلة للتعبيرعن مطلبية إجتماعية معيّنة، كما لا يمكن لأيّ كان إنكار انهيار وتدهور المقدرة الشرائية للمواطن التونسي سواء كان في قطاع الوظيفة العمومية أو غيره من القطاعات بسبب الإرتفاع الصاروخي للأسعار، وخاصة أسعار المواد الغذائية والإيجار وفواتير الستاغ والصوناد والمحروقات وهلمّ جرّا…
لا يمكن لعاقل أن ينكر أن الطبقة الوسطى في تونس انهارت ونسفت تماما إثر أحداث 14 جانفي 2011، لا يمكن لعاقل أن ينكر أنه أصبح لدينا أثرياء إلى حدّ التخمة، ولاسيما أثرياء ما بعد 14 جانفي 2011… أثرياء العفو التشريعي ونهب المال العام، مقابل توسّع قطاع الفقراء المفقّرين والمدقعين إلى حدّ الخصاصة والحاجة.
من المضحكات المبكيات أن يضرب موظفو بلد تسدّد أجورهم من قروض صندوق النقد الدولي
لا يمكن لعاقل سبر وخبر واكتوى بغلاء الأسعار إلاّ أن يتفهّم مطالب العمّال فلكلّ الحق في العيش بكرامة، ولكن هل أن التوقيت مناسب لتنفيذ إضرابات عامة في مرحلة تعيش فيها البلاد وضعا دقيقا أمنيا واقتصاديا واجتماعيا، الأمر الذي يستوجب تظافر الجهود لتفعيل هدنة اجتماعية والدخول في حوار وطني لتعزيز الوحدة الوطنية والسلم الإجتماعي؟
من المضحكات المبكيات أن يضرب موظفو بلد ما عن العمل وهم يتقاضون أجورهم بفضل قروض ممنوحة من صندوق النقد الدولي…
من المضحكات المبكيات أن ينخرط الإتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة الوطنية العريقة عبر تاريخها، في نسخته “الطبوبية” الحالية في الصراعات السياسية والمسيّسة ليساوم الدولة التي تمرّ بأسوأ حالاتها منذ سبع سنوات عجاف ونيف…
من المؤسف أن تحوّل القيادة “الطبوبية الرشيدة” مسار المنظمة الشغيلة من قلعة وطنية حصينة تجمع كل التونسيين وتدافع عن الطبقة الكادحة إلى “قاعة عمليات” سياسية للّي ذراع الدولة وإجبار الحكومة على الرمي جانبا بمصالح المالية العمومية ومصالح البلاد والعباد لإرضاء منظوري الإتحاد، ولإرضاء رئيسه الذي يبدو أنه حوّل المعركة مع الحكومة من معركة عمّالية ونقابية إلى معركة سياسية وشخصية بحتة مبتداها ومنتهاها إسقاط الشاهد.
لماذا لا ينفّذ الإتحاد إضرابات لمحاسبة “أثرياء” العفو التشريعي العام وناهبي المال العام؟
لماذا لم نر إضرابات عامة نفّذها الإتحاد العام التونسي للشغل للتصدّي لتفعيل قانون العفو التشريعي العام خلال السنوات الأخيرة؟ وما الذي يمنع قيادة الاتحاد اليوم من وضع هذا الملف على الطاولة والمطالبة بالمحاسبة… محاسبة سارقي وناهبي المال العمومي الذي هو مال الطبقة الكادحة التي تدّعي النقابة الدفاع عنها، علما وأن أحدث الدراسات الصادرة عن المعهد الوطني للدراسات الإستراتيجية تشير إلى أن عدد الفقراء في تونس يبلغ مليون و700 ألف، وإلى أن نسبة تدهور المقدرة الشرائية تقدّر ب 40 بالمائة… فهل بشنّ إضرابات عامة نقضي على الفقر ويكون البناء يا نقابيين؟
لماذا لم نر الإتحاد يطرح ملف “الأثرياء الجدد” في فترة ما بعد 14 جانفي 2011؟ لماذا لم نر الإتحاد يدعو إلى الشفافية المالية بالنسبة لمنظوريه، خاصة في المؤسسات العمومية التي تعتمد نظام التنقيط؟ فلا يمكن للإتحاد أن ينكر “الثراء اللافت” لبعض منظوريه من النقابيين خلال السنوات الأخيرة؟
لا يمكن للإتحاد أن ينكر أن بعض منظوريه من النقابيين “الجهابذة” يتقاضون مرتبات في القطاع العام وفي الوظيفة العمومية دون القيام بأي عمل؟ في حين هم يشنّون إضرابات متواترة بل مرضية بسبب أو دون سبب ويتسببّون في معاناة أبناء الطبقة الكادحة التي لا حول لها ولا قوة؟
هل يمكن أن ينكر الإتحاد أن أغلب المنتسبين لقطاع الوظيفة العمومية والقطاع العام هم من منظوريه ومن المحسوبين عليه, حتى أن الوظائف والتعيينات في هذين القطاعين تتمّ أحيانا بالوراثة وبالمحسوبية، بمعنى أن الأولوية في الإنتداب تكون في غالب الأحيان للنقابيين ولأبنائهم ولمعارفهم، وأن الموظف النقابي عندما يحال على التقاعد يخلفه اليا أحد أفراد عائلته؟
نقابيون يتقاضون أجورا دون عمل والقطاع العمومي يعاني من أورام خبيثة
كم من أجور من المال العام يا ترى يتقاضاها نقابيون دون وجه حق، ودون أن يقوموا بأداء عمل مقابل ذلك؟ سؤال حارق لن تجيب عنه قيادة الإتحاد.
هل ينكر الإتحاد أن قطاع الوظيفة العمومية والقطاع العام ككلّ يعاني من “أورام خبيثة” هي سبب تدهور الإقتصاد وسبب انهيار المالية العمومية؟ وأن من بين أهم هذه الأورام الخبيثة هي افتقاد شريحة واسعة من العاملين في هذين القطاعين ثقافة وقيمة وقدسية العمل؟ من من التونسيين لم يذهب يوما إلى إدارة عمومية ما لقضاء شأن من شؤونه ليجد المماطلة والتسويف والبيروقراطية المتخلّفة والمقيتة في انتظاره؟ من مناّ لم يقصد إحدى الإدارات دون أن تكون الإجابة “إرجع غدوة”، أو أن “المسؤول” الفلاني و”الموظف” العلاّني غير موجود بمكتبه… في حين أن ذات هذا المسؤول أو ذات هذا الموظف يترشّف قهوته بأحد المقاهي، أو يتجوّل بسيارته بإحدى الطرقات متسبّبا في إختناق حركة المرور في وقت كان من المفروض أن يكون خلاله في عمله ويقوم بواجبه المهني تجاه المواطنين، أوبمعنى اخر “يحلّل فلوسه”؟
لماذا لم نر الإتحاد يدعو يوما إلى معالجة هذه “الأورام الخبيثة” التي استشرت في جسد القطاع العمومي وتسبّبت في تردّي إنتاجيته وتدهور خدماته ليكون الوطن هو الخاسر الأكبر والمواطن هو الضحية الأولى… والمقصود بالمواطن هنا هو المواطن البسيط و”عاري الظهر” “سياسيا” و”نقابيا”؟
متى يفتح الإتحاد الملفات انفة الذكر، أي ملفاته الداخلية، حتى نصدّق كمواطنين أن منظمتنا الجامعة ترعى مصالحنا جميعا دون تمييز ودون مقايضات أو مساومات ودون مساس بمصلحة البلاد؟ أم تراه يكتفي فقط بفتح أو محاولة فتح ملفات الحكومات سواء كانت هذه الحكومات على خطأ أم على صواب.
لماذا يعارض الإتحاد الإصلاحات الهيكلية وخوصصة المؤسسات المفلسة؟
لماذا يعارض الإتحاد الإصلاحات الهيكلية في القطاعات العمومية المفلسة أو التي هي على وشك الإفلاس بسبب الصعوبات المالية التي تشهدها، والأمثلة كثيرة؟ لماذا لا تقتنع القيادة “الطبوبية” للإتحاد أن وضع المالية العمومية لا يحتمل الزيادات في الأجور؟ لماذا لا تقرأ القيادة “الطبوبية” سياقات وتشعّبات الوضع الإقتصادي العالمي الذي لديه انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على وضعنا الداخلي؟ لماذا لا ينخرط الإتحاد الذي لا نشكّك في وطنيّته كمنظمة حشادية عريقة في حوار إيجابي مع الحكومة بهدف إيجاد حلول للتأزّم الإجتماعي تأخذ بعين الإعتبار مقدرات ومصالح البلاد ؟
لماذا لا تتفهّم النقابة أن الوضع الإقتصادي المتأزّم الذي تشهده البلاد يتطلّب إصلاحات جوهرية وفي العمق، وليس الإكتفاء بأنصاف الحلول أو الحلول الترقيعية التي تزيد من تعميق الأزمة؟ هل تنفيذ الإضرابات حتى وإن كانت دستورية ومشروعة هو الحلّ ولا حلّ سواه؟ هل سياسة الهروب إلى الأمام والتصعيد و”العنتريّات” الزائفة والإستعراضية هي من ستنقذ الشغّالين من العوز وقلّة ذات اليد وتجعل من بلادنا “سنغفورة”؟ لا نعتقد ذلك، فالحلّ حتما يكمن في العمل ولا شيء سوى العمل والزيادة في الإنتاج والإنتاجية وخلق الثروة.
خسائر الدولة بالمليارات جرّاء الإضرابات والمطلبية الإجتماعية
هل نسيت أو تناست النقابة أن إنتاج الفوسفاط تدهور بنسبة 18,5 بالمائة خلال الأشهر الأخيرة من عام 2017 بسبب إحتجاجات واعتصامات المطلبية الإجتماعية المتكّررة و المشطّة؟ هل تناست قيادة الإتحاد أن غلق وتعطيل مواقع إنتاج النفط والفوسفاط خلال السنوات الأخيرة أفقد بلادنا إيرادات بنحو ملياري دولار، إلى جانب خسارة أسواقها التقليدية مثل البرازيل والهند؟ هل تناست قيادة الإتحاد أن أغلب المستثمرين الأجانب أغلقوا مصانعهم ومؤسساتهم وغادروا إلى المغرب وإلى بلدان أخرى بسبب الإحتجاجات الإجتماعية العشوائية والمطلبية المشطّة المدعومة من النقابة؟ هذه عيّنة فقط والأمثلة كثيرة ومتعدّدة، وقطعا الخاسر الأكبر هو الوطن.
“ما هكذا تورد الإبل” يا قيادة الإتحاد؟ ما هكذا تبنى وتتطوّر الأوطان..؟.
يبقى السؤال الأخير لما أقرّ الإتحاد العام التونسي للشغل الإضراب العام في قطاع الوظيفة العمومية وهو يعلم مسبقا أن الحكومة التي وافقت على “مضض” على تفعيل الزيادات في أجور القطاع العام لن تعيد الكرّة و”لن تلدغ من الجحر مرّتين” بالموافقة على زيادات أخرى في الأجور بالنظر إلى الفيتو المرفوع ضدّها من صندوق النقد الدولي الذي هدّد بإيقاف القروض المسندة لتونس في حال تمّ إقرار الزيادات في أجور الوظيفة العمومية.
نختم بالتصريحات التي أدلى بها الأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي التي رشحت كالعادة بنبرات من التوعّد والوعيد والتهديد… ونحن في الحقيقة لا نعلم من يتوعّد الطبوبي؟ وهل الأمر يستحّق كل هذه التصريحات النارية وهذا “الغضب الساطع” من جنابه؟
الطبوبي يتوعّد: “لن نبقى مكتوفي الأيدي”…عنتريات إستعراضية ضدّ وطن يترنّح
الطبوبي الذي اعتبر أن الإضراب العام نجح وحقّق أهدافه أكد كذلك أن “الإتحاد لن يبقى مكتوفي الأيدي في المرحلة القادمة”؟ والسؤال ما المقصود غير المعلن من هذا التصريح؟ هل يلمّح الطبوبي إلى تنفيذ ما يسمّيه ب “ثورة الجياع” التي لن تبقي ولن تذر وفق إستشرافه؟ هل هو التلميح إلى شنّ إضرابات أخرى متواترة ومتكرّرة بغاية إسقاط الحكومة؟ لكن هل البلاد ستتحمّل كل هذه “العنتريات”، خاصة وأن وضعنا الأمني دقيق والتهديدات الإرهابية ما تزال قائمة بالرغم من النجاحات الكبرى للمؤسسة العسكرية والأمنية؟
يقول الطبوبي: “الإتحاد لن يبقى مكتوف الأيدي في المرحلة القادمة”… ونحن نقول للطبوبي: “وسّع بالك”… جميع الحقوق الإقتصادية والإجتماعية للتونسيين مكفولة بالدستور وبالقانون وليست في حاجة إلى كل هذا “اللغط” والضجيج النقابي لتفعيلها… دافعوا عن حقوق منظوريكم دون المساس بمقدرات ومصالح البلاد… ودون ممارسة ضغوطات مشطّة على ميزانية ومقدرات بلد يتعثّر ويترنّح وعلى وشك الإنهيار الإقتصادي… لكم في اليونان أكبر مثال… اتقوا الله في وطنكم هذا هو المطلوب منكم… دون ذلك أبناء تونس الوطنيين هم أيضا لن يبقوا مكتوفي الأيدي أمام محاولات تركيع وتدمير البلاد تحت مسمّى المطلبية الإجتماعية.
الأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل: “ما تكتفوش إيديكم… على نقيض ذلك أفردوا أياديكم وأطلقوها ومدّوها وافتحوها عن الوطن ولمصلحة الوطن ولخير الوطن ولبناء الوطن… وكفى توعّدا ووعيدا لصنع بطولات وهمية… الوضع دقيق جدّا ولا يحتمل أزمات جديدة… محدّثتكم وكاتبة المقال من الطبقة الكادحة.
شارك رأيك