لا أعلم إن كان رجال السياسة يدركون جيدا الظروف القاسية التي تمر بها تونس، وكيف يتصرف المواطن العادي أمام البطالة المستفحلة وغلاء المعيشة وضيق الأفق. سأصوت في الاستفتاء حول الدستور الجديد حتى تعود البلاد للعمل والإنتاج والتقدم والازدهار، وانهاء حالات الصراع وتقاذف التهم والاستعراضات الشعبوية والفولكلورية، فالشعارات الجوفاء والثورجة جعلتنا تحت رحمة غيرنا وخسرنا الكثير من انجازاتنا وفي مقدمتها العدالة الاجتماعية.
بقلم العقيد محسن بن عيسى
اتخذتُ قرار المشاركة في الاستفتاء، وهذا موقف شخصي، على أمل أن يلتقي رأيي مع آراء البعض من الجيل الذي أنتمي إليه. لست أكثر من مواطن متقاعد يحاول أن يفهم مستقبل وطنه فهما جيّدا، ويدفع حسب المُتاح إلى ما هو أفضل لمستقبل أبنائه وأحفاده.
كيف باعت السياسة شرفها؟
لم أجد نفسي في توطئة الدستور ولا في بعض الفصول، وعشت بسبب ذلك الحيرة مثل الكثير وخاصة بعد حالة الارباك الغريبة التي عرفتها السلطة في نشر النص وإصلاحه. لقد شعرت بهيمنة “الأمر الواقع” وربما خيبة الأمل، ولكني قرّرت المشاركة حتى لا أترك البلاد للمتربصين بها.
لقد عرف الأجداد والآباء سنوات الاستعمار وجراحها وآلامها التي لا زالت حية في الذاكرة، وكتبت تونس بهم ومعهم تاريخ مجدها وكرامتها. ومن واجبنا ألا نهدم تاريخنا فلا مجال لتصفية الإرث النضالي الوطني تحت أيّ مبرّر، فبسَلْبه يعود الاستعمار، وهذه المرّة ليس بالحديد والنار، ولكن مُتخفّيا وراء القوة الناعمة والبترودولار ومستغلا ومُغذّيا كل الانقسامات الممكنة.
عشت مثل كل التونسيين زمن السّراب منذ 2011 والسنوات العجاف منذ 2014 وشاهدت مثل الكثير كيف باعت السياسة شرفها من أجل أن ترتقي بعض الوجوه الدخيلة قليلا عن الأرض، وترتكب أفظع الجرائم حال تمكنها من السلطة. أعتقد ان الدستور المطروح على الاستفتاء وبنقائصه هو باب الخروج من محنة طالت سنواتها، وهو مثلما يبدو انعكاس للفكر السياسي السائد لدينا – دون إشادة كبيرة أو نيلٍ من القيمة – ففيه نتاج العقل الفاعل والفكر القائم على الأمور بتدبيرها وسياستها، وفيه نتاج العقل المنفعل والمستعجل والثوري دون الدخول في تفاصيل حيثياته. ليس بالإمكان أحسن مما كان، ولا شك انّ انفراج أزمتنا ستكون بالضرورة على مراحل.
الثورجة جعلتنا تحت رحمة غيرنا
لا أعلم إن كان رجال السياسة يدركون جيدا الظروف القاسية التي تمر بها البلاد، وكيف يتصرف المواطن العادي أمام البطالة المستفحلة وغلاء المعيشة وضيق الأفق. سأصوت حتى تعود البلاد للعمل والإنتاج والتقدم والازدهار، وانهاء حالات الصراع وتقاذف التهم والاستعراضات الشعبوية والفولكلورية، فالشعارات الجوفاء والثورجة جعلتنا تحت رحمة غيرنا وخسرنا الكثير من انجازاتنا وفي مقدمتها العدالة الاجتماعية.
القضية ليست في تاريخ الثورة والتسمية الاصطلاحية وإمكانية اعتمادها مرجعا بعد الذي حصل بالبلاد، وإنّما في الفقر الذي أخذ مأخذه من الشباب وجعلهم في أحيان كثيرة يفضلون رمي أنفسهم في قوارب الموت على الموت في وطنهم فقرا. سأصوت حتى نعود الى التطبيق السليم لإجراءات التنمية وإعطاء الشباب صوتا ودورا أكبر في السياسات والبرامج التي تؤثر فيهم وترسم مستقبلهم.
نحن لا نستجدي أحدا. كرامتنا أكبر من ذلك وهذه هي المدرسة البورقيبية دون توظيف. سأصوت حتى نُنهي حالات الاتكال على الغير ونعتمد على امكانياتنا وطاقاتنا لخلق ثروة وطنية مزدهرة تكرّس استقلالنا الاقتصادي. هناك حاجة لبناء الحرية والسيادة عبر هذه المنطلقات. سيقول التاريخ يوما ما كلمته والتاريخ المعني ليس الذي يحاولون كتابته اليوم خارج الوطن وفي قنوات مشبوهة.
أستغرب هذ الجدل القائم حول صراع الهويات ومقاصد الشريعة، لا زلنا نشتغل وننشغل بما لا يجب فالحوار المطلوب سابقا وحاضرا يتعلق بشكل الدولة ونظام الحكم والقانون الانتخابي. سأصوت حتى نعود لبناء معالم حوار جادّ وواعٍ ومنهجي على طريق بناء تعاقد مجتمعي وسياسي، ونقف أمام عودة الفكر القبلي والقبيلة والبداوة السياسية.
أرقام مفزعة وخسائر فادحة
لاشك أنّ العنف السياسي بمختلف أشكاله و مظاهره بعد 2011 أثّر على سير العمل والأمن العام بالبلاد، ولئن تجاوزنا بعض المراحل فإننا لازلنا نحتاج الى وضع حدّ لحالات الاختراق والفلتان الأمني وفرض سيادة القانون. وحتى نكون صرحاء مع أنفسنا فالداخلية منذ نشأتها كانت محل تجاذب أمنى داخلي وسياسي على المستوى الوطني ولكن دون المساس بالجوهر.
كلنا لنا مواقف صامتة تجاه الأرقام المفزعة والخسائر الفادحة الناجمة عن حوادث المرور والجريمة بشكل عام. وكلنا يدرك أنّ لهذه الأرقام دلالة لا يمكن انكارها. الأمن الحقيقي هو ما يجري على لسان المواطن من استحسان واطمئنان وفي كل مكان وليس في حديث حواراتٍ فسد مضمونها وتعب الكلام فيها من كثرة الكلام.
الاشكال يبقى أيضا بعد سلسلة الايقافات والاخفاقات في اختيار أنسب الأشخاص لكل وظيفة ومسؤولية واستقطابهم، وتعيينهم وترقيتهم واستبقائهم. سأصوت حتى نعود جميعا ودون قيد أو شرط الى احترام حياة الأشخاص والممتلكات ورفع حالة الخوف التي تسكن البيوت والأحياء ونحسن الاختيار في الوظائف والمسؤوليات بشكل عام.
هذا واقعنا ولست شاكيا ولا يائسا، بل مُلتمسا التعامل الإيجابي على وفق ما يمكن فعله.
ضابط في الحرس الوطني متقاعد.
شارك رأيك