متى سوف يتم الحسم في الإصلاحات الكبرى للإقتصاد التونسي؟ هذا السؤال أصبح يشغل المواطن التونسي أكثر من السياسيين نظرا لإنعكاساته الإقتصادية والإجتماعية على نمط عيشه وقدرته الشرائية ومن أهم هذه الإصلاحات هي إعادة هيكلة أنظمة التقاعد والحيطة الإجتماعية.
بقلم فوزي عبيدي
هذه الإنتظارات قابلها تهرب من المسؤولية من قبل الكتل النيابية الحاكمة بمجلس النواب فقد تم تبجيل الحسابات الإنتخابية وتقديم المصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية.
الجلسة المؤجلة
في الجلسة التي من المفترض أن يتم المصادقة فيها على تنقيح القانون المتعلق بنظام الجرايات المدنية والعسكرية للتقاعد والباقين على قيد الحياة في القطاع العمومي من قبل الجلسة العامة بعد أن أكملت اللجان الفرعية أعمالها، قامت الكتل النيابية الحاكمة والممثلة في الحكومة بالتغيب عن الجلسة وبذلك تم إسقاط تنقيح القانون ظاهريا بحكم عدم إكتمال النصاب القانوني للتصويت.
لكن الدوافع الحقيقية هي حسابات سياسية حزبية على حاسب المصلحة الوطنية فهذه الكتل سعت إلى عدم الدخول في تجاذبات مع العمال والإتحاد العام التونسي للشغل خاصة مع عدم الوصول لإتفاق حول الزيادة في الوظيفة العمومية ففي هذه الحالة عند المصادقة على القانون بتنقيحاته الجديدة سوف يتم التخفيض في صافي المرتبات والأجور بحكم الترفيع في المساهمات الإجتماعية المحمولة على الموظفين المنصوصة عليها بالتنقيحات الجديدة مما يجعل الموظفين المنتظرين للزيادة الموعودة بها يتقاضون مرتبات جانفي منقوصة.
هذا الأمر دفع الكتل النيابية لإسقاط تنقيح القانون ظاهريا ولكن الأكيد سوف يتم النظر فيه من جديد حالما يتم الإتفاق حول الزيادات في الوظيفة العمومية مع الإتحاد العام التونسي للشغل بحيث يتم الخصم بعنوان الزيادات الجديدة في المساهمات الإجتماعية من هذه الزيادات في الأجور.
لكن حتى يتم هذا سوف تتحمل الصناديق تكاليف إضافية بحوالي 300 مليون دينار نتيجة حسابات حزبية و إنتخابية.
وضعية معقدة
تعيش الصناديق الإجتماعية أزمة مالية خانقة نتيجة تقلص الموارد مقابل تزايد النفقات بشكل مهول حيث أصبح العجز المالي لهذه الصناديق يسجل إرتفاعا سنويا من 789 مليون دينار سنة 2015 إلى حوالي 1250 مليون دينار سنة 2018 وينتظر أن يحقق عجز قياسي سنة 2019 إذالم يكن هناك تدخل عاجل مما ينذر بإفلاس هذه الصناديق التي تؤدي دور إجتماعي وإقتصادي هام وقد أثرت هذه الوضعية على قدرة الصندوق الوطني للتأمين على المرض على خلاص المستشفيات العمومية والصيدلية المركزية ومسدي الخدمات الصحية في الآجال المحددة.
هذا العجز يرجع إلى أسباب موضوعية وأخرى غير موضوعية، بالنسبة للأسباب الموضوعية فترجع إلى التهرم السكاني نتيجة التحول الديمغرافي نحو تهرم المجتمع وارتفاع مؤمل الحياة بعد سن الستين مما نتج عنه تزايد عدد المنتفعين بجراية بنسق ارفع من تزايد عدد المنخرطين النشيطين الجدد وكذلك نتيجة الوضع الاقتصادي الذي ساهم في إنخفاض مواطن الشغل الجديدة. مع الإشارة إلى تطور النفقات ليس فقط نتيجة التحول الديمغرافي بل كذلك لإرتفاع كلفة الأمراض الثقيلة والمزمنة وتطور كلفة الأدوية الخصوصية المستوردة نتيجة تراجع الدينار وارتفاع كلفة الخدمات الصحية في القطاع الخاص .
لكن هناك أسباب غير موضوعية فاقمت هذا العجز الهيكلي لا بد من الفصل فيها أهما :
– تمتع موظفي الصناديق الاجتماعية في تونس بامتيازات إستثنائية مقارنة بالوظيفة العمومية والقطاع العام من بينها عدم دفعهم مساهماتهم الإجتماعية وبالمقابل يحصلون على مرتبات تقاعد في مقابل اقتراب الصناديق الإجتماعية من عتبة الإفلاس نتيجة الديون.
– سوء الحوكمة والتسيير بالصناديق الإجتماعية .
– عدم تسديد عديد الوزارات مساهماتها في الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية.
– تهرب مؤسسات القطاع الخاص من دفع مساهماتها الإجتماعية.
– إنتشار القطاع غير الرسمي والتجارة الموازية حيث تنتفي حقوق الشغل.
تنقيح القانون هو حل ظرفي
تقدمت الحكومة بمشروع تنقيح للقانون عدد 12 لسنة 1985 المؤرخ في 5 مارس 1985 المتعلق بنظام الجرايات المدنية والعسكرية للتقاعد للباقين على قيد الحياة في القطاع العمومي ومن أهم الإضافات المقترحة :
– الترفيع في المساهمات المستوجبة بعنوان التقاعد بالنسبة للمشغل 2 بالمائة وبالنسبة للعون 1 بالمائة على مرحلتين وذلك للترفيع في نسبة المساهمات .
– الترفيع في سن الإحالة على التقاعد من 60 إلى 62 سنة.
– تحدد سن الإحالة على التقاعد بسبع وخمسين (57) سنة بالنسبة للعملة الذين يقومون بأعمال منهكة ومخلة بالصحة.
– الترفيع في سن الإحالة على التقاعد بالنسبة للعسكريين إلى 52 سنة بالنسبة لرجال الجيش كالرقباء و62 سنة للضباط السامين.
– الترفيع الإختياري لسن التقاعد حسب طلب المعني بالأمر ويمكن أن يصل إلى حد سن 70 سنة.
هذه التنقيحات هي مجرد حلول ظرفية ستساهم في رفع موارد الصناديق الإجتماعية لفترة محدودة ولكنها قصيرة المدى وسوف ترجع الأزمة أشد خلال السنوات القادمة خاصة أن سنوات 2020 و2021 سوف تشهد أكبر عدد من المغادرين للوظيفة العمومية بحكم الوصول للسن القانونية للتقاعد وهذه الحلول السهلة المتمثلة في الترفيع في المساهمات لم تنجح من قبل في لجم نسق العجز المالي فقد لجأت السلطة سنة 1994 إلى الترفيع في نسبة المساهمة بعنوان أنظمة التقاعد في القطاع العمومي لتصبح 2.2 نقطة موزعة كالتالي : 1.2 نقطة على كاهل المؤجر ونقطة على كاهل الأجير وسنة 2007 الزيادة بثلاثة نقاط إضافية 1.8 نقطة على كاهل المشغل و1.2 نقطة على كاهل الأجير وبداية من جويلية 2011 تم الترفيع مجددا بنقطة إضافية على كاهل المشغل.
هذا العجز و الخسائر المتتالية نتيجة أخطاء جسيمة منذ عقود خاصة على مستوى التسيير وحوكمة أنظمة التقاعد وسوء التصرف في الموارد المالية للصندوق إبان حقبة النظام السابق إذ تمّ إهدار المال العام وميزانيّة هذه الصناديق لأغراض سياسيّة تمثّلت خاصّة في تمويل حملات الحزب الحاكم ومؤسسات حزب التجمع كلجان التنسيق .هذه المشاكل جذورها عميقة وأسبابها متعددة لا يمكن حلها فقط بالزيادة في سن التقاعد والمساهمات المحمولة على الأطراف بل بحلول هيكلية و إستراتيجية.
ضرورة وجود معالجة هيكلية ودائمة
الحل الهيكلي لا مناص أن يبدأ من تطبيق مبدأ العدالة الإجتماعية بين طبقات المجتمع بحيث تبقى الجدارة للعمل المنجز وليس الإمتيازات الإستثنائية وهنا المقصود الأنظمة الخاصة والإستثنائية بداية بالوزراء وكتاب الدولة مرورا بأعضاء مجلس النواب ثم أعضاء مجلس المستشارين سابقا ووصولا إلى الولاة وذلك بإلغاء القوانين المنظمة لها:
– القانون 31 مؤرخ في 17 مارس 1983 خاص بالوزراء .
– الولاة القانون 16 مؤرخ في 17 مارس 1988 خاص بالولاة.
– القانون 16 مؤرخ في 8 مارس 1985 خاص بنواب مجلس النواب.
– القانون 54 مؤرخ في 18 جويلية 2005 خاص بمجلس المستشارين.
فقد تم سن هذه القوانين بغاية شراء ذمم المتعاونين مع النظام السابق والقاعدة هنا ليس فترة العمل المنجز بل ضمان الموالاة للنظام وهذه الأمور قد إنتهى زمنها وولى فمثلا العون العادي مطالب بقضاء 15 سنة عمل ليصبح له الحق في التمتع بجراية أما بالنسبة إلى الوزراء والولاة فإن الحد الأدنى المطلوب للتمتع بجراية هو أقدمية بسنتين فقط وخمس سنوات بالنسبة إلى النواب.
ويتمثل الإستثناء ثانيا في طريقة احتساب نسبة الجراية طبقا للأقدمية ذلك أن العون العمومي يقضي فترة عمل طويلة نسبيا لبلوغ أقصى مبلغ للجراية إذ يتمّ احتساب 2% عن كل سنة بالنسبة إلى العشر سنوات الأولى و3% عن كل سنة بالنسبة إلى العشر سنوات الثانية وأخيرا 2% عن كل سنة لما تبقى من السنوات دون أن تتجاوز النسبة في كل الحالات 90% من المرتب المعتمد في تصفية الجراية وهذا يعني أن العون لا يمكنه بلوغ النسبة القصوى إلا بعد قضاء 40 سنة في العمل على عكس الأنظمة الخصوصية فيكفي الوزير أن تكون له أقدمية بسنتين ليحصل كحدّ أدنى على نسبة 35% من المرتب الذي تم على أساسه الحجز يضاف إليها 5% عن كل 6 أشهر. وهذا يعني أن الوزير بإمكانه بلوغ الحد الأقصى للجراية بعد قضاء سبع سنوات ونصف فقط.
وتتم تصفية جراية الوالي على أساس 6% بالنسبة لكل سنة عمل ممّا يمكنه من بلوغ الحد الأقصى بعد قضاء 15 سنة في منصب وال. أما بالنسبة إلى عضو مجلس النواب أو عضو مجلس المستشارين فتقع تصفية الجراية باعتبار 30% من مبلغ المنحة البرلمانية عن كل مدة نيابية بما يعني الحصول على الحد الأقصى أي 90% بعد قضاء 3 مدد نيابية.
إضافة لذلك يجب العمل على :
– مراجعة التعديل الآلي للجراية بربط التعديل في الجرايات بالمفاوضات الإجتماعية بالاستئناس بمؤشر الأسعار ونسبة النمو الإقتصادي.
– إنشاء صندوق ضمان للبطالة للمفصولين عن العمل لأسباب اقتصادية لتخفيف الضغط على الصناديق.
– تنويع مصادر التمويل كإقرار ضريبة على مختلف المواد والتجهيزات التي تعتبر من الكماليات كالمشروبات الكحولية.
– تنظيم وإستقطاب القطاع غير الرسمي وغير المهيكل لأن المشكلة الكبرى تقع في هذا القطاع.
– استعمال الإحتياطات المالية للصناديق في شكل استثمارات و الإستئناس بالتجارب الناجحة فمثلا بالدول المتقدمة التي تشهد تهرما كبيرا الصناديق الإجتماعية هي من أكبر المستثمرين في البورصات.
– مراجعة التسيير في هذه الصناديق وتطبيق قواعد الحوكمة الرشيدة الكفيلة بمنع سوء التصرف المالي.
شارك رأيك