في الذكرى الثامنة لاغتيال القائد اليساري والمناضل الكبير ضد التعصب الفكري والظلامية الشّهيد شُكري بلعيد الذي اغتالته مجموعة من المتعصبين الدينيين، يوم 6 فيفري 2013، يكشف لنا الشاعر والكاتب سوف عبيد في هذا المقال الوجه الاخر للفقيد وهو الشاعر المبدع المتمكن من ناصية الحرف المتوهج صدقا و حبا وجمالا.
بقلم سُوف عبيد
-1-
شَاربٌ كثيفٌ أسودُ وبجانبه على اليمين شامةٌ سوداءُ على بياض، ذلك ما تراه على غلاف ديوان الشّهيد شكري بلعيد وما الشّارب والشّامة إلا سِمتان تمتاز بهما ملامح الشهيد الذي ـ ولئن عُرف مناضلا وطنيا بارزا ـ فهو لم يُعرف شاعرًا بين الأدباء والشّعراء خاصة لكنّني عندما قرأت ديوانه “أشعار نقشتها الريح على أبواب تونس السبعة” تبيّن لي أنّ النصوص الشعرية الواردة ضمنه تمثّل شاعرا من الطّراز الرّفيع فهي تؤكّد أنّها صادرةٌ من لَدُن مُهجةٍ كثيفةِ الشّجون ومُعبِّرةٍ عن مُعاناةٍ صادقةِ التجربة وهي قصائد لُحمتُها وسَداها من نَسْج ثقافةٍ عميقة وشاملة جعلت تلك القصائدَ ذاتَ أبعاد وآفاق مشحونةٍ يشواهدَ ودَلالاتٍ ذاتية واِجتماعية وتاريخية ناهيكَ عن قيمتها الأدبية فنقرأ مثل :
وجهك والريح في ما تقول الفصول
وجهك خيل المرايا
وامرأة عابرة
وجهك الآن ما خلفته الخبول
وما تركه الفاتحون على الأرض من دعوات
ومن أمنيات
وما شكلته الخفايا
إذن سوف تمضي وحيدا
إلى راية قاتلة (ص 58)
أو كقوله أيضا :
إنّي الحلاج
هاكي الجبة فاللّه هنا يسكن فانوس الروح بأتعابي
هاكي الجبة واحتضني مسكن أيامي وعذابي
إني الحلاج
صبحي أقبل
يا امرأة من نيروز ومن شبق الذكرى
من خلجات المطلق حبن نساء الأرض تخون
فأنا المجنون
يا امرأة يخرجها الله من ضلعي أتيهُ بها في ليل الغربة
وأنادي
يا امرأة الطير ، هنا حُلّي في جسدي المسجون
وانفجري كالكلمات الحبلى
بنشيجي المخزون (ص54).
-2-
كان من المنتظر أن نقرأ شِعرا معناه في ظاهر لفظه ويغلب فيه الخطاب الإديولوجي ويطفُو عليه المنحى السياسي المِنبري على النواحي الفنية الجمالية فالشاعر مناضل عتيد وملتزم إلى النخاع بالقضايا الوطنية التونسية والقومية العربية في أبعادها الإنسانية ولكن ما نكاد نمضي في القراءة قصيدا تلو قصيد حتى ترتسم لدينا ملامح شاعر مُقتدر يمتلك ناصية القول الشعري فيرسل المعاني صُورا صورا فإذا المجازات والتضمينات والإلماحات تتوالى في إيقاعات متنوعة حتى تستحيل شعرا بديعا بما فيه من وهج الصدق والمعاناة وبما في أبعاده من انتصار لقيم المحبة والبذل فيبدو الكون الشعري لدى شكري بلعيد كونا قَدَّهُ من ملكوت شعريّ ذي بصمات خاصة قد اكتسبها ولا شك من اطلاعه على مدونات القدامى الشعرية ونتلمّس في بعض نصوصه صدى معاصريه من الشّعراء ولا عجب في ذلك فالإضافة لا تأتي من فراغ والإبداع لا يتسنّى إلا لمن كان مُطلعا على منجزات معاصريه.
-3-
من الخصائص الدالة على القيمة الفنية لقصائد شكري بلعيد ذلك الانصهار الذي تمكّن به من المزاوجة بين الشّجن الذاتي الحميمي وبين الهاجس الاجتماعي العام كقوله :
حين أنهض في غيبتي
أرسم عمري على راحتيك
وأمضي قليلا
لقطف الندى
ثم أكتب سيرة عشقي
على نهدك
والعيون مدى
وأشد إلي البلاد وأصرخ
يا طير
يا بحر
يا نهر
يا حجر الموج يا فتنة الفجر
يا لون زهر المنافي
ويا كبرياء الأنوثة (ص55).
وهو حتى عندما يعبر عن مواقفه النضالية فإنه لا يصرّح بها بإفصاح صارخ كما تُكتب الخُطب والبيانات وإنما يجعلها في صياغة فنية وبأسلوب فيه الكثير من الإيحاء كقوله :
رفاقي نشيدي الأخير
جنون حبهم للبلاد التي وزعوا نارها بينهم
ثم مالوا على جفنها.واستباحوا بريق عيونهم
وردة لانبلاج الصباح
نسجوا من الدم المتوحد
أغنية الرفض والعاشقين
ملء هذي الأرض نحن
ملء هذا العمر نحن
ملء كل الحب
شحذنا الروح من أزل
وقلنا وحدنا الباقون (ص147).
ـ 4 ـ
إن قصائد مثل “القرمطي”، “اِنبلاج الجسد الفلسطيني”، “للحبّ طقوس فلترحل هذه الدنيا”، أعتبرها منجزات إبداعية تمكّن فيها الشاعر من الموازنة بين المنحَى الفكري والسياسي وبين الوشائج الذاتية العميقة وما كان ليصل إلى هذا المستوى من القدرة لولا تمكنّه من تجاوز الكثير من الاِختلافات الفكرية وجعلها منسجمةً في أطروحة جديدة جعَلها كسنفونية لا يمكن عزفها إلا باِنسجام عديد الآلات الموسيقية المتنوعة…
تلك هي القناعة التي توصّل إليها وعيُ الثلث الأخير من القرن العشرين والمتمثّلة في ضرورة تجاوز مقولات الإديولوجيات الجاهزة لأن الممارسة والتجارب أثبتت فشلها في شتّى نواحي العالم وليس أمام البلدان العربية خاصة إلا أن تجد الحلقة المفقودة بين تراثها وواقعها من ناحية وبين تحديات العصر وآفاق المستقبل من ناحية أخرى وإنّ قصائد مثل “رسائل بغداد” أو “نشيد الخيول” أو “القرمطي” تؤكّد أنّ شكري بلعيد شاعر اِكتسب أسلوبا خاصا به يتميّز بقاموس جَزْل المفردات أي التي فيها قوّة ووضوح وبنصاعة المعاني في غير مباشرتيّة عارية وبمعمار قائم على إيقاعات متنوّعة وثمّة قصائد أخرى مثل “حلم” أو “لوحة” أو “طاولة المقهى” أو “وحدي” أو “إليّ” نلاحظ فيها محاولات البحث والتجديد في مواضيع التفاصيل الصغيرة كما ترسم بعض الظلال من سيرته الشخصية فحضور بغداد مثلا واضح المعالم وهي قصائد وردت في شجن عميق وبأشكال فنيّة قائمة على مخالفة النّمطية وبنهايات مفاجئة فشكري بلعيد شاعر واع بمسارات القصيدة العربية الحديثة ولا شكّ ,وقد كانت قصائده شاهدة أيضا على قناعاته فقد سار على منهاجها في حياته التي كانت ثمنًا لنضاله من أجلها فهو من هذه الناحية أحد الشّعراء الذين لا يجود بهم التاريخ إلا نادرًا وإنّ شاعريته الفيّاضة بمحبة الأوطان والقيم الخالدة للإنسان تلك الشّاعرية من رقّتها ولطفها وشفافيتها لامست أحيانا تخوم حالة من التصوّف في مقولة وحدة الوجود وذلك في قصيدة “إله”.
واقفٌ في مَخرج الرّوح
لم يعتلّني القديم
يا رياحَ البنفسج لا تَنسيْني
بلّغي مُهرة الرّوح كلّ الجنون
سمّيني عندها بالفتى
والمدى
والحنين
ولِدِيني ثانيةً
كي يستطيع النّهارُ اِبلاع صدايْ
أنا واحدٌ في رؤايْ
عَدّدتني المراحل ثمّ هوتْ
فتَشكّلَ ثانيةً من دمايْ
ولدٌ ملأ البحر في كفّه
ومضى يُنشد انْ
لا إلهَ سِوايْ (ص 16).
ثمّة كلمةٌ كثيرا ما تتواتر في قصائد شكري بلعيد وفي سياقات مختلفة ألا وهي “الدّم” باِعتبارها الرّمز للتضحية والفداء ولقد تحقّق له ما خطّه من نبوءته ذات صباح كأنه كان معها على موعد حيث ورد في قصيد “نشيد الخيول” مثلا:
فلتترجّلْ كل الوُعول التي أعلنت موتنا ذات فجر
فالخيول
في اِشتباك الفصول أخرجت لونها
واِحتفت بضجيج الصباح
هذا وجه الرّقفيق الأبيّ
هذا دمع الصبيّة حين يفارقها العاشقون
هذه أمّنا المتعبة تلوّح بالفجر بين يديها
وتعلن للذاهبين
دم للمرايا
دم للزوايا
دم للجسد
اِستعدْ
يا رفيق الكفاح اِستعدْ
والبلاد على دَمِنا أجمعت عشقها.
ـ 5 ـ
ختامًا لابدّ من إسداء الشّكر الجزيل للجهود التي أخرجت لنا هذه المدوّنة الشعرية فهي مرجع ينير جوانب أخرى من مسيرة الشّهيد شكري بلعيد بما في بعض القصائد من شواهد وإحالات وغيرها من الإشارات وإنّ هذه المدوّنة الشعريّة ذات قيمة إبداعية كبيرة فهي إضافة متميّزة للشّعر التونسي والعربي لذلك يجب اِعتيار شكري بلعيد ـ أيضا ـ ضمن الشّعراء التونسيين والعرب المعاصرين الكبار وقصائده البديعة شاهدة على ذلك.
غير أنّه كان من الأحسن لو أنّ الدّيوان ضمّ النصوص الشّعرية كلّها متواليةً حسب تاريخها قدر الإمكان وخاصة من دون حَجب البعض منها و رقابةٍ عليها بِتِعِلّةٍ أو لأخرى وبدون إضافة عناوين للقصائد التي ليس لها عناوين في الأصل وبدون جعلها في أقسام ثلاثة ذات عناوين ليست من اِختيار الشّاعر وبذلك يتسنّى لنا قراءتُها مثلما تركها صاحبُها بلا زيادة ولا نُقصان ولعلّ الطبعة الثانية يمكن أن تضمّ ما بقي من القصائد وتتلافى ما أشرنا إليه فالشّكر لأُولِي العزم مُسْبقًا.
إنّ ما دفعني إلى تسجيل هذه الملاحظة هو ما وقع لديوان الشّابي ـ أغاني الحياة ـ الذي لم يصدر ـ إلى اليوم ـ مثلما اِختار الشابي قصائده ورتّبها وعَنونها ففي كل مرة يصدر بإضافةٍ أو نقصان وكان من الأجدر أن يصدر الدّيوان كما أراده صاحبه ثم يُضاف إليه في مُلحق خاص القصائد الأخرى وللقارئ والدارس أن ينظر وأن يُمحّص النظر بعد ذلك من دون وكيل أو رقيب أو حسيب وعسى أن يكون لنا في ذلك عبرة .
كتب برادس في 3 فيفري 2019
شارك رأيك