الترفيع في نسبة الفائدة المديرية إلى حدود 7,75 بالمائة من قبل البنك المركزي التونسي أعاد إلى التدوال موضوع السياسة النقدية في تونس و سيناريوهات التحرك الحكومي في قادم الأيام إزاء ذلك.
بقلم فوزي عبيدي
شهدت السياسة النقدية للبنك المركزي التونسي فترتين مهمتين : الأولى إمتدت منذ الإستقلال إلى حدود سنة 1986، وقد إعتمدت على توفير التمويل اللازم للإقتصاد الوطني الناشئ إبان خروجه من فترة الإستعمار وبناء أسس وهياكل الإقتصاد الوطني.
وكانت تعتمد هذه السياسة على ثلاثة آليات بالأساس وهي آلية الحسم (la réescompte) التي عن طريقها يتم توفير السيولة اللازمة للبنوك المحلية، ثانيا تأطير القروض بتوجيه نوعية القروض نحو القطاعات المنتجة والإستراتيجية التي تريد الدولة بناء نواة لها، ثالثا عبر آلية الإحتياطات النقدية للبنوك حيث تم التعامل بمرونة وعدم التشدد مع البنوك في هذا الخصوص لتوفير أكبر قدر من تمويلات للإقتصاد.
محدودية السياسة النقدية
هذه السياسة ساعدت على المساهمة في دفع النمو الإقتصادي لكن كانت سببا في تفاقم ظاهرة التضخم التي وصلت خلال فترة الثمانينات إلى حوالي 10 بالمائة.
بعد 1986 تم القيام بعديد الإصلاحات في السياسة النقدية من ذلك التخلي على آلية الحسم وتأطير القروض مع الإبقاء على آلية التحكم في الإحتياطات النقدية للبنوك وأصبحت الآلية الرئيسية لتدخل البنك المركزي في السوق النقدية هي التحكم في نسق نسبة الفائدة المديرية وذلك إما لإمتصاص السيولة الزائدة بالسوق المالية أو العكس للتحكم في نسبة التضخم.
هذه السياسة النقدية إمتدت طوال فترة التسعينات وحتى بعد الألفية الثانية لكن دون إنعكاسات واضحة على المقدرة الشرائية للمواطن بحكم عدم تأثر حياته اليومية بطريقة مباشرة، وهذا يرجع أساسا للإستقرار الذي عرفته نسبة تضخم الأسعار في تلك الفترة مما جعل البنك المركزي يقوم بتغييرات طفيفة على نسبة الفائدة المديرية.
لكن في السنوات الأخيرة شهد نسق الزيادة في نسبة الفائدة المديرية إرتفاعا ملحوظا حيث سعى البنك المركزي في عديد المرات إلى الزيادة في هذه الفائدة في محاولة لكبح نسب التضخم العالية التي تجاوزت عتبة السبعة بالمائة.
وهنا يمكن تفهم هذا الإجراء بحكم الضغط الذي أصبح يمثله التضخم على الإقتصاد الوطني وهذا الإجراء قامت به دول مشابهة مثل الأردن التي قامت برفع سعر الفائدة إلى 4,75% مقابل نسبة تضخم وصلت إلى حدود 4,5% كذلك المغرب التي تبلغ نسبة الفائدة فيها 2,25% مقابل نسبة تضخم تبلغ 2,7% أما الجزائر فتبلغ نسبة الفائدة 3,75% مقابل 4% نسبة تضخم.
إن إعتماد السياسة النقدية في الحد من تفاقم التضخم له مردود إيجابي على المدى القصير والمتوسط ولكن يبقى أثرها محدود لعدة عوامل، من هذه العوامل إعتماد هذه السياسة على آلية وحيدة هي نسبة الفائدة المديرية وهي آلية فعالة ضد كبح نسق التضخم ولكنها ذات سلبيات عديدة خاصة على المدى البعيد فهي تزيد من تكلفة الإستثمار بدرجة كبيرة مما يخلق مشكلا إضافيا للمستثمرين خاصة وأن الإقتصاد التونسي في حاجة ماسة لإستثمارات تساعده على التعافي وإيجاد مواطن شغل جديدة كفيلة بحل مشكلة البطالة المزمنة.
كذلك هذه الآلية لا تراعي خصائص الإقتصاد التونسي ذا النسيج التجاري المحدود فالرفع من نسبة الفائدة له إنعكاس جد سلبي على الإستهلاك فبالرغم من تأثيراته الإيجابية على إنخفاض التضخم على المدى القصير لكن في النهاية سوف يضرب الإستثمار وماكينة الإنتاج بحكم ضيق السوق التونسية التي تعد قرابة 12 مليون مستهلك فالتقليص من الإستهلاك على المدى البعيد سوف يؤدي حتما إلى إنخفاض نسق الإستثمار.
علاوة على محدودية آليات التدخل و تأثيراتها المتضاربة هناك قصور آخر للسياسة النقدية وهو مجالات التدخل فنسبة التضخم القياسية ليست ناتجة فقط عن إرتفاع الكتلة النقدية المتوفرة للمستهلك التونسي بل يرجع إلى أسباب هيكلية أخرى أهمها التضخم المستورد نتيجة إنهيار صرف العملة الوطنية الناتج بدوره عن تفاقم العجز التجاري نتيجة عدم ترشيد التوريد.
من جهة أخرى التضخم في أسعار أغلب المواد المعروضة خاصة سنة 2018 يرجع إلى الزيادة المسجلة في الأداءات مثل الزيادة في الأداء على القيمة المضافة و الزيادة في المعاليم الديوانية وهذه الأداءات تدخل في تركيبة الأسعار مما جعل سنة 2018 سنة قياسية في التضخم.
إضافة لذلك نجد من المصادر الأساسية لإرتفاع التضخم في الفترة السابقة هو إنعكاس إرتفاع سعر المحروقات في العالم مما زاد في تكلفة المنتوجات بشتى أنواعها.
السيناريوهات المطروحة أمام الحكومة
هذه المحدودية في التصرف حيال ظاهرة التضخم من قبل البنك المركزي تستدعي التساؤل حول دور الحكومة بإعتبارها الطرف الثاني في معالجة المشكلة إن لم تكن الطرف الرئيسي في الموضوع بإعتبار أن مشكلة التضخم هي المشكلة الإقتصادية الأبرز للمواطن التونسي وماهي رؤيتها لمعالجة الموضوع فيما تبقى من سنة 2019، فقد كان حري بالبرلمان مساءلة الحكومة مع محافظ البنك المركزي على ما تنوي فعله إزاء هذه الوضعية.
أبرز رد فعل من الجانب الحكومي كان من طرف الوزير المكلف بمتابعة الإصلاحات الكبرى السيد توفيق الراجحي الذي إعتبر أن قرار البنك المركزي غير شعبي وهو قرار أعمى تجاه الكل وهذا الموقف غير مفهوم حيث ورد في شكل محلل حيادي بينما هو طرف في الموضوع لأن المواطن العادي ينتظر من مسؤول حكومي مكلف بالملف الإقتصادي أن يقدم له رؤية الحكومة والحلول المقترحة لمعاضدة جهود مكافحة التضخم دون المس من نسق الإستثمار وهو المطلب الأساسي الذي رفعه كل من إتحاد الصناعة والتجارة و إتحاد الفلاحين حيث إعتبرت كل من المنظمتين.
لذا فالحكومة مطالبة بإيجاد الحلول الكفيلة بعدم إرتفاع تكاليف تمويل الإستثمار وذلك عن طريق مساعدة المستثمرين بتحمل النسب الزائدة للفائدة طبقا لقرار البنك المركزي كذلك مطالبة بإيجاد الحلول اللازمة للتخفيض من عجز الميزان التجاري والحد من إنهيار سعر صرف الدينار المتسبب الرئيسي في التضخم المستورد.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
البنك المركزي التونسي وضرورة الحد من سطوة البنوك المركزية الموازية
إصلاح وهيكلة ميزانية الدولة من أجل ترشيد التصرف في الموارد العمومية
حلول مستعجلة لمساعدة شركة التنمية الإقتصادية بالقصرين على المساهمة في دفع عجلة الإستثمار بالجهة
شارك رأيك