بيّنا في الحديث السابق أن الإساءة ثابتة لمشاعر المسلمين في كتاب مواطنتنا هالة الوردي الذي تلعن فيه الخلفاء الراشدين؛ وبما أن السلطات التونسية لم تمنع الكتاب بالبلاد باسم حرية التفكير التي يضمنها دين الإسلام، فمن واجبها القبول أيضا، ونحن على مشارف رمضان، بحرية الإفطار وتجارة الخمرة وشربها، في شهر الصيام.
بقلم فرحات عثمان*
هذا ما يفرضه المنطق والأخلاق، وإلا وجب منع كتاب هالة الوردي بنفس تعلة حماية مشاعر المسلمين التي تُرفع في وجه من يطالب باحترام حرياته الفردية هذه.
طبعا، نحن ننادي بالحرية كاملة، ونرفض أي منع، سواء في الفكر والإعلام، فنثمّن السماح بتداول كتاب «الخلفاء الملعونون»، ولكن أيضا نطالب بها في مظاهر التصرف، ومنها الأكل والشرب بحرية مطلقة، أيا كان الزمن، لأن قناعتا تبقى أن الإسلام هو دين الحقوق والحريات بامتياز. فماذا تختار سلطنا: الحكمة في التصرف واحترام الدين الصحيح أم التهرّب والمداهنة بمنع شيء لا مضرة فيه للناس، بل الامتحان للصوم الصحيح، مع القبول بما فيه المضرة القصوى، أي الشتم للسلف وتشويه التاريخ، كالذي يـأتيه كتاب الوردي؟
الصيام الصحيح هو الكف عن الإفساد
ليس الصيام الصحيح ما نمارسه اليوم، أي بفرضه عنتا على الناس، بل هو الامتناع عن الإضرار بحرية الغير في كل شيء. فمن الدين الصحيح احترام المسلم؛ ويكون هذا خاصة بعدم المس بحريتة المضمونة في الإسلام، بما في ذلك عدم الصوم بكل حرية ودون إكراه؛ فمتى استُعبد المؤمن في دين الحنيفية المسلمة الذي يبقى إيمان النية الصافية وعن قناعة؟ فأين القناعة بضرورة الصوم إن لم تكن حرية الإفطار مضمونة ؟ وأين حرية عدم شرب الخمرة عن اقتناع إن لم تتوفر إمكانية شربها ليرفضها المسلم عن اختيار؟
إن فهمنا اليوم لديننا لفاسد تماما، لا يمت بصلة لروح دين محمّد ومقاصده؛ بل وحتّى ونصه. فلا إكراه للصيام لمن لا يطيقه أو لا يقتنع بوجوبه لتوفّر الكفارات للمؤمن، منها لأجل السفر والمرض مثلا، ومنها أيضا بسب مجرد اختيار الصائم إفطار الجائع وكسوة المسكين؛ وقد كان البعض من كبار الفقهاء، منهم أصحاب قراءات من المشاهير، يختار الإفطار والكفارة في نصرة الضعفاء من باب التكافل الاجتماعي.
وما فائدة الصوم، كما أصبح عندنا، مع ترك العمل والتكاسل والتكالب على التخمة ليلا، بينما نعلم جيد العلم أن الإسلام يحث على التقوى الصادقة، وهي أعلى من تقوى كاذبة مثل تلك؟ فهي تكتفي بالمظاهر الخداعة عوض الانتباه للبّ الصيام، وهو في الكف عن كل أنواع الإفساد والعمل علي تلافيها بالسهر، لا على الامتناع عن الأكل ضرورة، بل على واجب إطعام الجائع وإكساء العريان. فهل انعدم الفقراء والمساكين ببلادنا حتى لا نفكر إلا في إجاعة النفس نهارا للنهم أكلا وشربا ليلا؟ ثم ما يُدري هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم زبانية للصوم المفروض، لعل المفطر أفضل إيمانا منهم، إذ تقواه صادقة النية، خالصة من الخداع والنفاق اللذان يميّزان تقوى الجوارح عندهم؟
تقوى القلب أعلى من تقوى الجوارح
تقوى القلب هذه هي التقوى الوحيدة الصحيحة في الإسلام الذي ندّد بالمنافقين، من يأخذ بالشكليات ويتغافل عن مقاصد شعائره؛ وليست هي، بخصوص رمضان، في إجاعة النفس، بل التنبّه لجوع الناس حولنا وحاجتهم للتخفيف من بؤسهم. فالله في غنى عن صوم الناس إذا جعلوا من شهره المناسبة للتخمة في الأكل والظلم لمن لا ينصاع لتصرفاتهم الرعناء للكف مثلهم عن الأكل والشرب مداهنة.
ليعلم هؤلاء أنه ليس من أخلاق الإسلام الترصّد لتصرفات الناس وقد خلقهم الله أحرارا لا يُسلمون أنفسهم إلا لخالقهم، ويظلون أحرارا في تصرفاتهم، بما فيها التنصل من الواجبات الشرعية الظاهرة. فالتقوى الإسلامية ترفض المراءاة والتظاهر بالتقوى، إذ هي عندها من النفاق، ولا تقبل إلا بصدق النية التي لا تحققها إلا الأفعال. لذا، لم يسمح الله لعباده النفاذ إلى قلوب الناس والحكم على نواياهم بالظنة، فليس إلا له وحده حق التنقيب عن قلب المؤمن للتمييز مثلا بين الصادق المفطر والكاذب الصائم الذي يتفرعن لفرض الصيام على غيره كطاغوت أو صنم في دين لا مكان لهما فيه.
هذا لا يخص فقط الأكل والشرب علنا، بل أيضا تجارة الخمرة وشربها، إذ بنت العنب هي مما خلقه الله من الخيرات، فيها المنافع عند عدم الإسراف في تناولها، والأضرار عند المبالغة والإفحاش؛ فليست الخمرة محرمة في دين الحنيفية المسلمة، بل السكر، أي بلوغ حد اختمار العقل وفقدانه. لذا، من حق المسلم شرب الخمر في رمضان وغير رمضان مع السهر على عدم بلوغ حد السكر، وعدم شربه في أوقات الصلاة لمن يصلّي. هذا يعني الحرص على آداب الشرب؛ وهو من الإسلام الصحيح الذي أفسدناه بفهمنا المتزمت.
ولا شك أن المسؤولية ليست تقع فقط على من لم يعد يفهم الدين على صحة من أهل الدين، بل هي من الحكام وأصحاب الشوكة في دولة الإسلام، الأئمة الحقيقيون في دين لا كنيسة فيه ولا معبد؛ فلا مرجعية فيه للفقهاء بل للقانون، خاصة بتونس التي تدّعي أنها دولة مدنية. لهذا، من واجب السلط إعطاء المثل، وكفّ التنصل من المسؤولية بتعلة احترام مشاعر الصائم، فلا تُعنى إلا بالمظاهر الفجة التي تزيد في إفساد الدين بينما واجبها إصلاح فهمه الفاحش. فذا من الخلف، لأن شهر الصوم ليس في تزيد السوق ولا في الأكل أكثر من العادة؛ ثم هو يفرض خاصة الامتحان الذي يحتّم الصيام مع غير الصائم لتثبت النية والحرية، لب لباب الإيمان الإسلامي الحنيف.
لهذا، حان الوقت للسلط التونسية لرفع كل العراقيل في وجه الحريات الفردية في الإفطار علنا وتجارة الخمر وشربه، في شهر رمضان وغيره من الأشهر، وذلك باسم الإسلام الصحيح. ولا شك أن الظرف الحالي لهو أفضل فرصة لذلك بما أننا نقبل بشتم مقدساتنا، من ناحية، ثم نزيد الطين بلة بطمس معالمها بفهمنا الخاطىء لها. ومن هذا الفهم الخاطىء دون أدنى شك منع الإفطار في رمضان وتعطيل التجارة بما فيه منافع للناس مما خلقه الله إذا لم يسرف العبد في تعاطيه مثلما هي الحال تماما لباقي الأشياء غير المحظورة.
*ديبلوماسي سابق وكاتب.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك