هذا ما يحتّمه الحس السياسي والضمير الحي لكل وطني بتونس، كما يقتضيه تماما إحترام القسم الدستوري لكل مسؤول، خاصة بعد التصويت الأخير بمجلس النواب على مشروع تنقيح قانون 26 ماي 2014 المتعلق بالإنتخابات والإستفتاء.
بقلم فرحات عثمان *
فهذا القانون، كما يتعلل المصوتون عليه، يتنزّل في خانة حماية شفافية الإنتخابات وحفظها من التلاعب بالتصدي لمخاطر المال الفاسد؛ وهو بالتالي أخلاقي بالأساس. لذا، فإنه يفقد هذا السند المبدئي، وبالتالي كل مشروعيته، إذا تم تطبيقة في الإنتخابات المُزمع عقدها آخر هذه السنة، لأنه عندها يكشف عورته، أي نيّة إقصاء خصوم سياسيين، هذه النية التي لعلها تكون مبيّتة حقا عند أصحاب المشروع، رغم مزاعمهم المبدئية وكما يعتقده المندّدون به. فالتدليل على إنتفاء مثل هذا الإثم، وهو بحق بمثابة الخطيئة الأصلية péché originel، أي تهمة أنه لا يخدم إلا مصالح ناس بعينهم لقطع الطريق أمام ألدّ الخصوم السياسيين، لا يكون إلا بالسعي حتى لا يدخل القانون حيز التنفيذ إلا بعد مرور سنة على الأقل، فيصح عندها الزعم أنه حقا في صالح كل التونسيين ودولة القانون.
هذا، دون أدنى شك، يأتي إضافة لهنات أخرى تميّز نص المشروع، تجعلهه عرضة للنقض من طرف الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية القوانين وقد ثبت أن العدد الكافي من النواب توفّر بعد وأن المشروع سيتم القدح فيه دستوريا.
دولة اللاقانون:
علاوة على هذا الجانب الأخلاقي والدستوري، هناك أسباب أخرى تحمل على إعلاء شعار لا إنتخابات هذه السنة؛ ولا شك أن أهمها هو جرم – إذ هو بحق خيانة – التراخي عن واجب إرساء المحكمة الدستورية عاجلا قبل أي حدث وطني آخر. فالبلاد في حالة مكربة ومرعبة من الفراغ القانوني نظرا لدوام منظومة العهد البائد التشريعية الجائرة التي لا تزال قائمة، رغم إبطالها من طرف الدستور، تظلم الناس، بما أنها تطبّق من طرف القضاة وكأن شيئا لم يحدث بتونس وأن الديكتاتورية لم تسقط، حيّة بتشريعاتها المخزية.
إلى متى يحافظ الساسة المهووسون بالحكم على دولة اللاقانون هذه وهم يتغنون بالقانون وواجب إحترامه وصونه ممن يريد الشر للتونسيين؟ فمن أعظم شرا ممن يستنبط لخدمة مصالحه قانونا إقصائيا مخزيا ينضاف لترسانة قوانين الديكتاتورية، بينما لا يحرص في الوقت نفسه على إبطال هذه الأخيرة بإرساء المحكمة الدستورية التي يفرضها القانون والأخلاق ومصلحة الشعب والبلاد؟
إن دولة اللاقانون ببلادنا هي التي نجدها وراء التفكير الهلوسي في الإنتخابات عند كل من تأبط شرا من ساسة البلاد ممن يتمسّك بالحكم ويرفض سلطة القانون حتى يجور كما يريد ويبتغي. لذا، لتحقيق ما قالوا ويقولون عن حسن نيّتهم وتسربلهم بالأخلاق واحترام الدستور، عليهم إقرار تأجيل هذا الموعد الثانوي الذي يفكّرون فيه كلّهم إلى حد نسيان واجباتهم في ما يتعيّن فعله قبل غيره مما هو أساسي لدولة يكون فيها بحق القانون هو الأعلى.
فهلا قرّر النواب مثلا المبادرة بتخصيص العطلة النيابية للنظر دون تأخير في كيفية البداية في الإصلاح التشريعي بإبطال أهم القوانين المخزية المنافية للدستور؟ يكون هذا بالنظر دون تأخير في المشروع الذي تعده الهيئة المكلفة به صلب وزارة العدل، إذا تجرأت السلطة التنفيذية على تقديمه كمشروع قانون عاجل، أو تسريع النظر في مشروع لجنة الحريات الفردية والمساواة الذي تم بعد عرضه رسميا على البرلمان كمجرد مقترح، أي دون أية أولوية.
هذه مسؤولية أخلاقية وقانونية وسياسية تاريخية ستكون تداعياتها خطيرة على البلاد إذا لم يتحمّلها اليوم كما يجب من هي على عاتقه ممن هو في الحكم أو في كواليسه يحكم خفية.
إن كل الساسة اليوم معنيون بإثم رعاية دولة اللاقانون وبضرورة الخلاص من وصمته بتزكية النفس والنوايا والكف عن التلاعب بكل نواميس السياسية الحكيمة، بما فيها الأخلاق والقانون العادل، إلى حد السقوط في ذل خيانة اليمين الدستورية التي أدوها.
خيانة اليمين الدستورية:
هل من الضروري تذكير رئيس الجمهورية باليمين التي أدّاها، وهي في إحترام الدستور ورعاية مصالح البلاد والإلتزام بالولاء لها؟ إنها، بلا شك، تقتضي الإصلاح التشريعي العاجل لإبطال القوانين الباطلة التي تطبّق يوميا، وإقامة المحكمة الدستورية للخروج من دولة اللاقانون، والسهر على تحقيق دولة القانون الحقة!
إلى متى يغض رئيس الجمهورية نظره عن واجبه في الأخذ بعين الإعتبار بحالة البلاد الحالية المتميّزة بتعذر السير العادي لدواليب الدولة بها نظرا لانعدام المحكمة الدستورية، إضافة لحالة الخطر الداهم المهدد لكيان الوطن وأمنه والذي يؤكده التجديد المتواصل لحالة الطوارىء؟ هلاّ تجرأ ففعّل الفصل 82 من الدستور لوضع الحد السريع والمتحتّم لمثل هذه الحالة الإستثنائية وتأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال وذلك بانعقاد مجلس نواب الشعب باستمرار للقيام في مدة الشهر التي أقرها الدستور بما ذكرنا أعلاه والإنتهاء من إرساء المحكمة الدستورية التي لا زال يتلكأ في الفراغ من إجراءاتها؟
هل يتوجب أيضا تذكير رئيس الحكومة أنه أقسم، عند تسميته، بالعمل بإخلاص لخير تونس واحترام دستورها وتشريعها ورعاية مصالحها والإلتزام بالولاء لها؟ فأين إحترام الدستور والحقوق والحريات التي أقرها باقية إلى اليوم حبرا على ورق، من شأن مجرد مناشير منع تطبيقها، علاوة على القوانين المخزية واللاغية؟ هل يكفي، لاحترام الدستور، التمسك بالتاريخ الثانوي الذي ورد فيه والخاص بالإنتخابات مع تجاهل التاريخ الأساسي والأهم به المتعلّق بتركيز المحكمة الدستورية؟
وهل من الضروري تذكير نواب الشعب أنهم أدّوا نفس القسم، فإذا هم لا يحنثون فقط بإدارة ظهورهم لمصالح الشعب، بل وأيضا بتغليب مصالحهم بهذا النهم المشين للسلطة عبر التمسك بانتخابات عاجلة والتمهيد للفوز بها بترتيب نصوص مدّعية الشرعية ظاهريا وهي بلا شرعية البتّة بما أنها تأتي في دولة لاقانون، بلا محكمة دستورية للسهر على شرعية القوانين بها؟
أليس الشيء نفسه يُقال لهيئة الإنتخابات؟ فهل واجبها يقتصر على قراءة سطحية لحرف القانون الذي ينظم أعمالها وتجاهل روحه؟ أليس من واجبها ضمان سلامة المسار الإنتخابي ونزاهته وشفافيّته؛ فكيف يكون ذلك في محيط قوانينه باطلة تشهد يوميا على ظلم الديكتاورية وبقائها قائمة بالبلاد؟
وألا يجب تذكير القضاة الذين يلتزمون بالمنظومة التشريعية للعهد البائد أنهم لا يحترمون الدستور بتطبيق القوانين التي ألغاها الدستور؟ أليسوا يحكمون باسم الشعب لقولة الحق؟ فأين هي مع قوانين الديكتاتورية المؤسسة لقولة الجور لظلم الشعب؟ عندما نرى من القضاة طأطأة الرأس هذه لمنظومة الخزي والعار التي يحافظون عليها عوض رفض تطبيقها، كيف يكون القضاء بحق ضامنا لإقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون، وبالأخص حماية الحقوق والحريات؟ فلئن كرّس الدستور إستقلال القاضي وأن لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون، أليس هو يحيل للقانون كما أقرّه الدستور لا قوانين العهد البائد الباطلة؟
وأخيرا، في هذا الحديث الفاضح لغير النزهاء من أبناء الوطن الحبيب، تونس الجريحة، هل يتعيّن تذكير الجميع، وقد نسوه أو تناسوه، أن دستور البلاد يعتز في ديباجته بنضال الشعب التونسي من أجل الإستقلال وبناء الدولة والتخلّص من الإستبداد إستجابة لإرادته الحرّة، وتحقيقا لأهداف ثورة الحرية والكرامة؟ فأين الوفاء لهذا الدستور ولدماء الشهداء الأبرار ولتضحيات التونسيين والتونسيات للقطع مع الظلم والحيف والفساد؟
إن التأسيس الحق بدون خزعبلات لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، فيه السيادة للشعب، ليقتضي اليوم الجرأة وعلو الهمّة في الإصداع عاليا أن الوقت حان للإصلاح التشريعي ولإرساء المحكمة الدستورية؛ فلا إنتخابات هذه السنة!
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
شارك رأيك