بعد أن خلنا أننا تخلصنا من الإعلام التابع بعد رحيل النظام السابق ترجع لنا سياسة الموالاة الإعلامية من جديد فبسبب التأثير الحزبي والإستقطاب السياسي أصبحت هناك سياسة الموالاة أو التسويق الضمني لبرامج أحزاب بعينها وهو ما أصبح يطبع غالبية المؤسسات الإعلامية والمواقع الإلكترونية إلى درجة أن كل حزب أصبح وراءه لوبي إعلامي لا يسوّق فقط لسياسته بل يهاجم كل معارضيه.
بقلم فيروز الشاذلي
علاقة الإرتباط بين الأجندات السياسية والإعلام بمختلف أنواعه سواءا كانت تقليدية كالقنوات التلفزية أو الصحف أو الحديثة منها كمواقع التواصل الإجتماعي والمواقع الإلكترونية، أصبحت متعدّدة بتعدّد أساليب التأثير الحزبي على وسائل الإعلام ومحاولة تجنيدها لأجندات حزبية حتى أصبحت في بعض الأحيان بوق دعاية لهذه الأحزاب الكبرى مما جعل الساحة السياسية التونسية تغيب عنها المنافسة الديمقراطية النزيهة في ظل عجز هيئة الإتصال السمعي البصري (الهايكا).
الإرتباط العضوي بين الأحزاب وبعض الوسائل الإعلامية
في حالة الإرتباط العضوي تصبح الوسيلة الإعلامية ناطقا رسميا باسم الحزب وآلية دعاية رسمية وهذا يتطلب وجود إمكانيات مادية ضخمة للحزب المعني وأثبتت هذه التجربة أنها فاصلة في حسم المواعيد الإنتخابية لطرف معين كما أثبتت ذلك قناة نسمة في الدور الذي لعبته في الإنتخابات الرئاسية سنة 2014 فمالكها نبيل القروي يعتبر أحد مؤسسي حزب نداء تونس تحت عباءة الباجي قائد السبسي حيث كان دورها الدعائي لفائدة رئيس حزب حاسما في فوزه على منافسه الدكتور المنصف المرزوقي من خلال الدعاية لصالح الباجي والتغطية السلبية لحملة المرزوقي خاصة في الدور الثاني، هذا ما جعل نبيل القروي يحاول تكرار التجربة الدعائية هذه المرة ولكن لصالحه في إنتخابات 2019.
في نفس الإطار نجد أن صحيفة “الجريدة” الإلكترونية مثّلت كذلك إرتباطا عضويا بحزب نداء تونس و الدعاية له منذ تأسيس الحزب بإعتبار إنتماء صاحب الموقع نور الدين بن تيشة إلى حزب النداء وهو الآن من أعمدة قصر قرطاح فالموقع المذكور إلى الآن يبث الدعاية بشكل مستفزّ في بعض الأحيان فيمكن أن تجد في الموقع على الصفحة الرئيسية مقال يمجد خصال الرئيس على طريقة الأنظمة الأحادية والغريب أن يبقى هذا المقال أشهرا عديدة في النافذة الرئيسية للموقع بالرغم من وجود تخمة في المقالات الإخبارية.
على المقلب الآخر نجد حركة النهضة التي مثّلت لها قناة الزيتونة ناطقا رسميا بين القنوات التلفزية تؤمن لها الدعاية السياسية والدفاع والتسويق لتوجهاتها السياسية على مر جميع المحطات الإنتخابية السابقة أما على مستوى الصحف فنجد العلاقة العضوية للحزب بجريدة “الفجر” التي تعتبر الذراع الإعلامي التاريخي للحركة وهي الناطقة الرسمية لسياسة الحزب.
هذه الأمثلة نسوقها ليس بشكل تفصيلي لأن الحزبين المذكورين وبحكم أنهما أكبر الأحزاب قوة مادية ونفوذا سياسيا أصبحت وراءهما مؤسسات إعلامية تدور في فلكهما من دون أن تكون هناك علاقة عضوية.
سياسة الموالاة ترجع من جديد
بعد أن خلنا أننا تخلصنا من هذا الصنف بعد رحيل النظام السابق ترجع لنا سياسة الموالاة الإعلامية من جديد فبسبب التأثير الحزبي والإستقطاب السياسي أصبحت هناك نوع من سياسة الموالاة أو التسويق الضمني لبرامج أحزاب بعينها وهو ما أصبح يطبع غالبية المؤسسات الإعلامية والمواقع الإلكترونية إلى درجة أن كل حزب أصبح وراءه لوبي إعلامي لا يسوّق فقط لسياسة الحزب بل يهاجم كل طرف سياسي معارض ينتقد سياسة الحزبين الحاكمين وهنا نسوق على سبيل الذكر لا الحصر اللوبي المتموقع في فلك نداء تونس كقناة تونسنا وصحيفة “الصحافة اليوم” وهذه الوسائل الإعلامية كلها تحاول التسويق لأفكار الحزب بالرغم من التشتّت الذي يعيشه ولكن تبقى الأفكار المحورية تحت منهج الباجي قائد السبسي وقد مثّلت على مدار السنوات السابقة رافدا من الروافد الداعمة لسياسة الحزب وتموقعه السياسي.
بالنسبة لحركة النهضة هناك العديد من وسائل الإعلام التي تدور في فلكها وفي هذا الميدان هي ليست بالطرف الضعيف فقنوات عديدة تسبح في فلكها كقناة MTV وحنبعل وكذلك المواقع الإلكترونية التالية “باب بنات” و موقع “الصّدى” لصاحبه راشد الخياري وكلها تحمل نفس التوجه السياسي وتمثّل وسائل دعائية إنتخابية.
العلاقات الشخصيّة و الإنتماء الفكري له دوره
النوع الثالث من علاقات التموقع السياسي وتبعية الإعلام للأحزاب السياسية تنبني على العلاقات الشخصّية وخاصة الإنتماء الفكري والإيديولوجي للأطراف العاملة داخل المؤسسة الإعلامية أي أن هذه الأخيرة لا تربطها علاقة عضوية بالحزب ولكن أطرافا عاملة داخلها أصبحت ممثّلة لمصالح وأراء الأحزاب فالكثير من “بلاتوهات” التلفزة أصبحت عبارة عن ممثلي أحزاب بعينها تبعا للتيار الفكري و الإيديولوجي الذي ينتمي له المنشط أو المعلق كما دأب على تسميته في تونس “كرونيكور” و أبرز مثال ما تقدمه قناة الحوار التونسي فالمشاهد لا ينسى أن الصحفي لطفي العماري العامل بالقناة كان يدافع بشراسة على أفكار حزب نداء تونس في إنتخابات 2014 من دون الأحزاب الديمقراطية الأخرى وذلك بحكم علاقته الوطيدة بمحسن مرزوق ومثّل هذا المنشط اليد الطولى للحزب ذلك الوقت في أقوى برنامج حوار سياسي على القنوات التلفزية من حيث نسبة المشاهدة العالية، مع ملاحظة تغيّر مسار هذا المنشط في السنة الأخيرة نحو تقارب واضح مع شخص رئيس الحكومة يوسف الشاهد وهو ما كان واضحا بأن خصّه بمكالمة هاتفية على المباشر عبر الإذاعة الخاصة التي يعمل بها لطفي العماري وكذلك كان هذا التقارب جليا في إصطفاف واضح وراء رئيس الحكومة أثناء الخلاف مع رئاسة الجمهورية حول التغيير الحكومي الأخير، مما جعل الكثير من المتابعين يعيبون على هذا المنشط إصطفافه الواضح وراء رئيس الحكومة في أزمة نداء تونس مما جعل حزب نداء تونس يصدر بلاغا يقاطع فيه هذه القناة إضافة لقناة التاسعة جراء ما إعتبره إنحيازا سياسيا واضحا لطرف معيّن.
هذا البرنامج السياسي مثّل كذلك موطأ قدم لإتجاهات سياسية أخرى أهمها حركة النهضة ممثلة في شخص شكيب الدرويش والتي لا تحتاج مواقفه إلى تحليل لإثبات إنتمائه السياسي لعائلة النهضة السياسية ودفاعه الشرس عن توجهات الحركة ومهاجمة خصومها بكل ضراوة.
إنعكاس الواقع السياسي للأحزاب على الماكينة الإعلامية
هذا الإستقطاب الإعلامي وراء الطرفين الكبيرين في الساحة السياسية التونسية شهد في البداية تماثلا كبيرا بين الجانبين من حيث مواجهة الطرف الآخر بكل شراسة وتصويره في هيئة الخصم الأزلي الذي لا يمكن التلاقي معه مما هدّد بتقسيم الشعب التونسي، لكن بعد ذلك ظهرت تباينات شديدة بسبب إنعكاس الواقع السياسي للأحزاب على الماكينة الإعلامية التابعة خاصة بالنسبة لنداء تونس فالإنقسام السياسي الذي يعيشه الحزب بين رئاسة الحمهورية ورئيس الحكومة وتفتّت الحزب إلى عدّة شقوق إنعكس على الوسائل الإعلامية الداعمة فأصبحت هي نفسها منقسمة بل تخوض حربا ضروسا حسب تحيّزها لشق على حساب آخر بل هناك من أصبح من مالكي وسائل الإعلام المحسوبة على الحزب هو بذاته طرف يرى في نفسه إمتدادا لمسيرة الحزب و الباجي قائد السبسي وهنا الحديث على قناة نسمة التي ارتأى مالكها نبيل القروي بعد أن كان عضوا نشيطا في تأسيس الحزب وفوزه بإنتخابات 2014 إلى محاولة تأسيس إتجاه سياسي خاص به والترشح لانتخابات 2019 وهو ما دفعه إلى الدخول في صراع مع شق نداء تونس التابع لرئيس الحكومة حزب تحيا تونس.
الإستقطاب الإعلامي غيّب المنافسة الديمقراطية النزيهة
بهذه الصفة نجد أنفسنا الآن ونحن قادمون على إنتخابات خريف 2019 أمام مشهد ديمقراطي مزّيف حيث الإعلام هو الكفيل بإيصال خطاب الأحزاب التي لها نفوذ ولوبي إعلامي تابع وليس على منطق البرامج و الوجاهة السياسية فتجد وسائل إعلام تخوض حملات إنتخابية بدأت منذ الآن لصالح أحزاب بحد ذاتها مع تغييب بقية الأحزاب الأخرى أو شملها بتغطية سلبية تكون أشبه ما يكون بالدعاية السلبية والمتهجمة على هذه الأحزاب في سعي لتقزيمها أمام الناخب التونسي الذي هو في حد ذاته ما زال لم يستوعب أساليب الإستقطاب الإعلامي في الديمقراطية الحرة وليس لديه من المناعة الفكرية والسياسية للتخلص من هذه الدمغجة الإعلامية.
الهايكا عاجزة وعقوباتها غير رادعة
رغم أنّ القانون مازال يسمح لها بالعمل فإن الهايكا أصبحت عاجزة عن القيام بدورها واعتبرها الكثيرون فاشلة في أداء مهامها خاصة بعد إستقالة العديد من أعضائها في السنوات السابقة مما جعلها هيئة مبتورة تنقصها الكفاءة والإمكانات كما أن عقوباتها غير رادعة فبعد أن تقوم وسيلة إعلامية بحملة دعائية لحزب معين كما وقع في الإنتخابات البلدية السابقة تقوم الهايكا بمعاقبتها بين 10 آلاف دينار و50 ألف دينار أي ما يقارب حق ومضة إشهارية واحدة لهذا الحزب على هذه الوسيلة الإعلامية.
لهذا من الضروري التنصيب الفوري لهيئة الإتصال السمعي البصري التي ستخلف الهايكا في مهامها لضمان حرية التعبير والإعلام وخاصة إعلام تعدّدي نزيه إلى جانب ضرورة مراجعة قوانين العقوبات والصرامة في تنفيذها والتي مثلّت حلقة يسهل الإلتفاف عليها من قبل وسائل الإعلام المختلفة.
شارك رأيك