الإدعاء بضمان نزاهة الإنتخابات لمجرد أنها تحت مسؤولية هيئة مستقلة مبدئيا لا يكفي؛ فالهيئة تنشط في نطاق منظومة وطنية فاسدة؛ لذا، أعمالها في نفس فساد المنظومة.
بقلم فرحات عثمان *
هل من شك أن بلادنا لا تعرف بعد سلطة القانون العادل الذي يعلو الجميع؟ إن قوانيننا اليوم لا شرعية لها! فتونس التي تدعى أنها دولة القانون لا يزال شعبها يرزح تحت نير قوانين الديكتاتورية، إذ بقي دستورها غير نافذ في أهم ما أتى به من حقوق وحريات. وبديهي أن عدم إرساء المحكمة الدستورية قبل الإنتخابات يختزل أفضل اختزال هذا الفساد العام للمنظومة التي بفسادها يفسد كل شيء، بما فيها، بل وخاصة، الإنتخابات.
العملية الإنتخابية التي تستعد لها بلادنا حاليا ليست إلا لعبة سياسية لها قواعدها؛ وهذا ما نجده أيضا بالغرب الديمقراطي. إلا أن قواعد هذه اللعبة هي، عالميا، أقرب للنزاهة عندما تتنزل ضمن منظومة شرعية عامة للبلاد تحترم أصول دولة القانون، حقيقة لا وهما وكذبا؛ وطبعا، ليست هي إلا مجرد خدعة لا نزاهة فيها البتة حين تنعدم مقومات دولة القانون الفعلية في المنظومة العامة.
هذه هي الحال عندنا حتى وإن تسربلت الإنتخابات بكل الضمانات الشكلية، فلا فائدة في شكل لا مضمون له أو فاسد المضمون. لقد انعدم المضمون عندنا، أي نزاهة القوانين العامة للبلاد المؤطرة لكل ما يحدث فيها، ومنها الإنتخابات القادمة.
كيف تكون الإنتخابات عندها نزيهة وقد انعدمت بالبلاد أبسط قواعد الإستقلالية في كل ما يهم حياة شعبها؟
فساد الإنتخابات في فساد القوانين
بادئ ذي بدء، لا نزاهة ولا استقلالية للإنتخابات في مناخ تشريعي فاسد أساسه قوانين العهد البائد التي بقيت سارية المفعول. لهذا، نحن نرى كل أصناف التجاوزات، ولا من تتحرك له شعرة في مفرقه ممن يتكلم بالأخلاق والشرعية!
هل يُعقل لعقل سليم تنظيم انتخابات ندّعي أنها مستقلة، نزيهة وشفافة، عندما لا نزاهة ولا استقلالية ولا شفافية في القوانين العامة بالبلاد، بما أنها غير شرعية، باطلة منذ دخول الدستور حيز التنفيذ؟
وكيف نعقد انتخابات والدستور لم يتم تفعيله بعد في أهم ما فيه، أي المحكمة الدستورية، علاوة على أن ما أتى به من حقوق وحريات بقي حبرا على ورق؟ أليس الكلام عندها عن الإستحقاق الإنتخابي للشعب مجرد خداع ونفاق؟ إن هذه الإنتخابات فاسدة قبل الشروع فيها لفساد الأس الذي تقوم عليه وهو المخالف للدستور بصفة فاحشة.
فساد الإنتخابات في فساد السياسة
ما من أحد يشك اليوم أن فساد القانون مردّه فساد السياسة وأهلها؛ خاصة وأنه أصبح من المعلوم، غير المجهول، عند الجميع كل ما يخص الدواعي الخفية للتحول بتونس؛ فإنه، قبل أن يكون ديمقراطيا، كان بالأساس رأسماليا مركنتيليا. والحقيقة اليوم، التي لم يعد من الفائدة التعمية عليها، هي أن المصالح الغربية ارتأت استمثار ورقة الإسلام السياسي واستعمال التزمت الديني لخدمةٍ أفضلٍ لمصالحها، سواء الإستراتيجية أو الإقتصادية، عوضا عن الديكتاتوريات العسكرية التي ولى زمانها بما أن نسبة المصلحة والمضرة في التعويل عليها أصبحت سلبية.
هذا ما حتّم السهر على ألا يقع الإضرار بتلك المصالح وإن كان ثابتا فيها المساس بمبرراتها الشكلية، أي التعلة الديمقراطية وحقوق الشعوب؛ فهذا في رأي الغرب لا يهم إلا أهله، حيث الإعتقاد السائد أن أهل مكة أدرى بشعابها!
لذا، لا بد من الوعي أن الذي يحكم البلاد التونسية اليوم ليس ذاك الساهر على تحقيق السيادة الشعبية، لأنه عندها يسهر أولا على تفعيل حقوق الشعب وحرياته قبل أي شيء آخر! الحاكم اليوم لتونس، وفي ذلك فساد السياسة والساسة بها، هي مصالح رأس المال العالمي من خلال من يخدمه من الإسلاميين الذين حرص على إصعادهم للحكم ويحرص على الحفاظ على بقائهم به طالما لم يأت من يعوضهم ليكون أفضل منهم لمصلحة الرأسمالية التي تبقى الأعلى على كل شيء، بما فيها الديمقراطية.
دليل الفساد الأوضح: الحبر الإنتخابي
أوضح الدليل على فساد الإنتخابات وعدم استقلاليتها هو هذا الحبر الإنتخابي المفروض على كل البلاد النامية لمصلحة من يتاجر به. هي عملية دولية تتنزل في خانة تقزيم الدول في حالة الإنتقال الديمقواطي لخدمة رأس المال عبر حبر لا فائدة فيه بتونس لاعتمادها على القائمات الإنتخابية.
هذا، وقد علمنا أن هيئة الإنتخابات رأت نفس هذا الرأي وسعت لإبطال اللجوء للحبر، إلا أن الضغوطات كانت شديدة فطأطت بالرأس. نعم، إنه لا فائدة في الحبر الإنتخابي، إلا أن فائدته لكبيرة لمن يروّجه على المستوى العالمي، كما هي أيضا لمن يعتمد عليه لمسخ العملية الإنتخابية، مثل ما يحدث ببعض البلاد الديكتاتورية، وحتى عند بعض الأحزاب عندنا، إذ وصمة الحبر على الإصبع عند هؤلاء هي الدليل على المشاركة والتصويت في لعبة الإنتخابات، لا بحرية، بل في الإتجاه المطلوب أو المفروض.
رغم كل هذا، أملنا يبقى ألا تستمر المهزلة ببلادنا؛ ففساد الإنتخابات فيها غير نهائي إذا توفرت النية الصادقة، والتي بإمكانها الظهور في أي وقت، عند من له الضمير الحي والنفوذ للجرأة عليه؛ وهم كثر بالبلاد. إلا أنهم ساكتون!
فهل منهم قرار رمزي يأتي للإشارة إلى ضرورة الأخلاق في السياسة والتنبيه إلى خطورة الحالة المتردية التي عليها السياسية عندنا؟ وهل يكون هذا من هيئة الإنتخابات برفض فحش الحبر التجاري؟
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
شارك رأيك