رغم أن الإسلام في قراءة صحيحة لتعاليمه لا يحرّم تشخيص خلق الله، حتى وإن علا شأنهم، فقد دأب المسلمون على تحريم تشخيص الرسول دون الإنتباه إلى أن في ذلك الخرق لأهم ما يميّز الإسلام : توحيد الله.
بقلم فرحات عثمان
ولئن كان لهذا الخور دواعيه في زمن خلا، فلا معنى له البتة اليوم، لا منطقيا ولا دينيا؛ بل إنه بمثابة الكفر بالله وتوحيدة، إذ يُحاكي تصرف من كان يرفض الإسلام بتعلة التمسّك بسنة السلف من الآباء والأجداد. فالتعلّق بمثل هذا الفهم الخاطىء لمنع تشخيص الذات الإلهية وحدها يضرب عرض الحائط بنصوص صريحة من الذكر الحكيم، ومنها قوله تعالى في سورة الزخرف، بالآية 24: «قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباؤكم قالوا إنّا بما أُرسلتم به كافرون».
تهافت المنع الفقهي لتجسيد الرسول
المنع الفقهي الذي أكل عليه الدهر وشرب يعتمد على القول بأن الشريعة جاءت بسدِّ كلِّ باب يُوصِل إلى الشِّرك بالله، اعتبارا أن منها التصوير. ورغم انعدام أي نص في الغرض، فمن يقول بتحريم الصورة يعتمد على أحاديث وقع تأويلها بخلاف ما نجد حقا في الفرقان والسنّة الصحيحة. بل إن منهم من يستشهد بمنع الله الغلو في الدين (النساء، 171) وتحذير الرسول من ذلك في حقّه بالإتيان به بمنع تشخيصه رغم تأكيده على أنه ليس إلا عبدا من عباد الله.
لذا، لئن كان تشخيص الرسول محرّما، وجب حتما منع تشخيص كل آدمي، وإلا أفسدنا ديننا! فإن منع تشخيص رسول الإسلام ليشبه فعل بعض النصاري في تأليه ابن مريم، لأننا بمنع تشخيصه نرفعه إلى مستوى الذات العلية التي تتميّز وحدها بهذه الخاصية.
إن تهافت القول بمنع التشخيص للرسول لا شك فيه، خاصة في دعوى أن التصوير يؤدّى إلى الشرك. فقد بيّنا خطأ القول بأنه لم توجد صورة للرسول، وأن المؤمنين لا يحتاجون إليها للتعلّق به. فكما رأينا، تعددت أوصافه في الثابت من الروايات الصحيحة بما كان أبلغ من الصورة الفرتوغرافية، مما يجعلها اليوم لا تأتي بأي جديد عمّا فعله المؤمنون منذ القديم قبل أن يتغلغل التزمت إلى دينهم فيأتي بهذا المنع الذي ما قال به الله ولا رسوله.
تعدد تشخيص الرسول في تاريخ الإسلام
الفهم الصحيح للإسلام إذًا هو القول بأنه، خلافا للمعتقد الشائع، لا تحريم للتجسيد في الإسلام إلا للذات الإلهية؛ هذا يعني أنه لا تحريم في الدين القيّم لتجسيد البشر، بما فيهم الرسول الأكرم، حتى وإن اصطفاه الله للرسالة.
ولا شك أن تعدد تشخيص الرسول في تاريخ الإسلام يؤكد ذلك، سواء كان صورا منذ القديم أو، حديثا، في مشاريع أفلام نجحت السياسة في منع تصوريها ببلاد الإسلام. ورغم أن ذلك كان باسم الإسلام، فهذا المعتقد الطاغي إلى اليوم في الأذهان ليس إلا من نتاج العادات التي رسبت من الإسرائيليات التي جعلت المسلمين يقلّدون النصارى في تأليه نبيّهم. فإذا هو بمثابة الإله، يُمنع تجسيده كأنه لم يخلق بشرا من لحم ودم، له هيئة وصفات بين آدم، بل وأفضلها.
لذا، فإنه من المنطقي والمتحتم، بما أن من مهام النبي إتمام مكارم الأخلاق وعلى العباد التسنّي به، معرفة صفته بدقة لمحاكاتها مضمونا وشكلا.
خلافا إذًا لما يظنه الجمهور ويحاول فرضه أهل التزمّت، وكما بيّنا في الجزء الأول من هذا الحديث، صور الرسول عديدة عبر التاريخ، وقد أوردنا منها، مع المقال السابق، منمنمة من أقدمها تمثل محمدا مع روح القدس جبريل. وهذه أخرى اليوم، نرى فيها رسول الإسلام مع رسول النصارى، وهي من كتاب تاريخ البيروني «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، المتوفّى سنة 1048 مسيحية.
الإسلام السياسي هو المانع لتجسيد الرسول
السياسة وأهلها ومن في خدمتهم من الكنيسة الفقهية الدعيّة في الإسلام هم الذين يمنعون عودة المسلمين للخلق والإبداع بتشخيص رسولهم، كما عرفنا ذلك في تاريخ الإسلام بعد اندثار عهد الأوثان ومعه الخوف من النوازع الوثنية التي كانت ترتبط بالصورة.
إنها فقط اعتبارات سياسية التي تمنع أن تكون لنا صورة للرسول الكريم؛ الإسلام السياسي وحده هو المانع لذلك، إذ يستغل الدين كأفيون للشعوب اعتمادا على الفهم الفاسد الشائع واستغلاله من طرف من يتاجر بالدين من أهله ومن أعدائه على حد السواء. بذلك، لا يحظى سيد الآنام إلى اليوم بصورة، وهي سمة العصر، بينما لنا صور عدة لرسول المسيحية مثلا، وكأنه أفضل منه قدرا عند أهل الإسلام أنفسهم!
بغض النظر عن الإنتاج الغربي، لقد كانت لنا من المسلمين أنفسهم محاولات جريئة للقطع مع الدغمائية المتزمتة؛ من ذلك الشريط السينمائي بعنوان ”النبي محمّد” للمخرج التركي وداد عرفي الذي كاد أن يتم إنتاجه في عمل مشترك بين تركيا ومصر سنة 1926. إلا أن شيوخ الأزهر وأهل التزمت أقاموا ضجة كبيرة أدّت إلى حملة عنيفة ضد الشريط المزمع تصويره وضد الممثل يوسف وهبي الذي وافق بداية على تقمص دور الرسول.
هذا أدّى في نهاية الأمر بالممثل إلى رفض الدور، مصرّحا بما يلي إلى جريدة الأهرام في أحد أعدادها لشهر ماي لتلك السنة: «إنني إذا كنت رضيت أن ألعب هذا الدور فليس إلا لرفعة شأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتصويره أمام العالم الغربي بشكله اللائق به وحقيقته النبيلة، وليس الغرض من هذا الفيلم سوى الدعوة والإرشاد للدين الإسلامي… وليعلم إخواني المصريين أن شعاري ديني قبل كل شيء، وبناء على قرار أصحاب الفضيلة العلماء واحترامًا لرأيهم السديد، أعلن أنني عدلت عن تمثيل الدور وسأخطر الشركة بعزمي هذا».
هذا وقد تدخّل الملك المصري بنفسه لتهديد الممثل بحرمانه من جنسيته إذا وافق على تمثيل الدور، مما أدّى إلى توقّف مشروع الفيلم قبل البداية في تصويره.
على أن المحاولات لم تنته، وهي متواصلة في السعي إلى الدفاع عن الإسلام بالصورة وإعلاء شأنه بتشخيص أفضل التشخيص صاحب دعوته. من ذلك الثلاثية للمخرج الإيراني مجيد مجيدي ”محمد رسول الله”، التي تم، في أواخر سنة 2016، منع عرض الجزء الأول منها بتونس.
هذا الشريط يُعنى برواية حياة النبي في ثلاثة أجزاء، يقوم المخرج فيه بتجسيد شخصية النبي كهلا كما تم تجسيده طفلا في الفيلم الذي أنتجه وتم وتوزيعه بالعالم أجمع، عدا البلاد العربية الإسلامية بما فيها بلادنا التي تدّعي الحق في الإبداع وضمان تمام الحرية فيه.
* ديبلوماسي سابق وكاتب.
شارك رأيك