من محكوم بالإعدام زمن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة و المنفى في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، إلى رئاسة البرلمان بفضل ثورة الشعب التونسي، هذه هي السياسة فأمواجها عاتية وسفنها لا يمكن أن تخبر راكب أمواجها بمراسيها وشكل شواطئها، لكن هذه الثورة التي كسرت الأمواج العاتية وقلبت الموازين ووضعت حركة النهضة وزعيمها الشيخ راشد الغنوشي في كرسي السلطة أين محلّها من الإعراب ؟
بقلم فيروز الشاذلي
إن مطالب الثورة ومبادءها و الوعود الانتخابية للحركة الإسلامية التونسية بتبني محاربة الفساد الذي يعد المطلب الجذري للثورة التونسية، كلّ هذا تم تركه جانبا في سبيل وصول زعيم الحركة إلى رئاسة البرلمان بالتحالف مع حزب قلب تونس الذي عودتنا حركة النهضة على نعته أيام الحملة الانتخابية بحزب “المقرونة ” فإذا به يصبح فجأة حليف الحركة داخل البرلمان وقد يصبح في الغد القريب حليفها الأساسي في الحكومة التي يعمل على تشكيلها السيد الحبيب الجملي مرشح النهضة لرئاسة الحكومة.
سعي الشيخ راشد الغنوشي للخروج من الباب الكبير
الشيخ راشد الغنوشي تقدم به السن ولا بد من إيجاد موقع له في الدولة التونسية يليق بدوره التاريخي في حركة النهضة لكي يخرج من الباب الكبير خاصة أن الشيخ على أعتاب إكمال دورته الثانية الأخيرة في رئاسة الحركة قبل تسليم هذه العهدة إلى شخصية نهضاوية في المؤتمر القادم أواسط 2020، فلا يوجد في الوقت الراهن أفضل من رئاسة البرلمان بعد أن وجد الغنوشي الأبواب موصودة للوصول لكرسي قرطاج، كما أن هذا الشغف بالسلطة لم يكن إرادة تيار داخل الحركة لخروج مشرف لزعيمها التاريخي بل كان كذلك تعبيرا عن شغف شخصي من قبل الغنوشي نفسه بالوصول لتقلد مناصب الحكم العليا وكان ذلك جليّا من الوهلة الأولى من سعيه الدائم لوضع ربطة العنق في الاجتماعات الرسمية والتعبير الدائم للمحيطين المقربين منه بأحقيته في تقلد منصب من ثلاثة المناصب العليا في الدولة سوى كانت رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة أو رئاسة البرلمان. لكن ما كان ينقص هو انتظار الوقت المناسب لتولي منصب رئاسة البرلمان التي تتيح للشيخ راشد الغنوشي تولي مقاليد حكم أهم سلطة في تونس بل هي السلطة الأصلية وفي ميكانيزمات النظام السياسي التونسي الهجين هي بوصلة الحكم و تبرز أهمية هذه السلطة خاصة في العلاقة مع الحكومة التي بدورها سوف تشكلها حركة النهضة لهذا كان سعي الغنوشي ومن ورائه حركة النهضة إلى ترؤس البرلمان بأي ثمن حتى لو كان بالتضحية بمطالب الثورة وبوعودها الانتخابية بمحاربة الفساد من خلال التحالف مع حزب قلب تونس الذي تلاحق رئيسه نبيل القروي قضايا عديدة في التهرب الضريبي والفساد المالي وتبييض الأموال وهو من الأصدقاء المقربين من رئيس الحركة الاسلامية و يحظى لديه بحظوة خاصة.
صفقة السقوط السياسي والأخلاقي لحركة النهضة
هذا السعي المحموم لحركة النهضة ورئيسها لتولي منصب رئيس البرلمان أصبح أكيدا أن الثورة هي من ستدفع ثمنه فمفاوضات الخفاء والصفقات وراء الأبواب المغلقة في الغرف السوداء قد خرجت للعلن في الجلسة الإفتتاحية لمجلس النواب الجديد من خلال التحالف بين حركة النهضة وحزب قلب تونس لإيصال الشيخ راشد الغنوشي لسدة البرلمان فتولي الغنوشي لهذا المنصب ما كان ليحصل لولا تصويت نواب حزب قلب تونس لفائدته، فالحركة كانت عاجزة لوحدها رفقة ائتلاف الكرامة عن الحصول على عدد الأصوات المحدد وهو 109 صوت.
لهذا كانت حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي عازمة على التضحية بأهداف الثورة وبوعودها الإنتخابية مادام الهدف هو عدم إضاعة فرصة تولي الغنوشي لرئاسة البرلمان، إنها بكل وضوح صفقة السقوط السياسي والأخلاقي لحركة النهضة فكانت الجلسة الإفتتاحية للبرلمان الجديد جلسة التوافق بامتياز بين الطرفين ذكرنا بالتوافق الملعون بين الحركة وحزب نداء تونس طيلة خمسة السنوات الفارطة و الذي جلب الويلات للشعب التونسي فكتلتي النهضة وقلب تونس كانتا ملتزمتين أيّما إلتزام بالتصويت لمرشح كل كتلة لرئاسة البرلمان ونائب الرئيس وهذا ما كان واضحا منذ بداية الجلسة فكل مترشح من الحزبين كان ضامنا لنجاحه حيث أكدت ذلك النائبة عن قلب تونس سميرة الشواشي والتي تم انتخابها النائب الأول للبرلمان بوجود اتفاق بين حركة النهضة و قلب تونس حول منصب رئيس البرلمان ومساعديه و الأدهى أن زعماء حركة النهضة لا يرون حرجا في تصويت نواب قلب تونس لفائدة مرشحهم لرئاسة البرلمان بالرغم من جزم قيادة كل من الحزبين أثناء الحملة الانتخابية وبعدها بعدم التحالف و أنه يدخل في خانة المستحيل فحركة النهضة رفعت شعار عدم التحالف مع أحزاب تربطها علاقة بشبهات الفساد بينما قلب تونس ومؤسسها نبيل القروي كان دائما يدعي رفض التحالف مع النهضة محمّلا إياها جميع مشاكل البلاد.
لكن يبدو أن للسياسية حسابات أخرى عند الحزبين خاصة حركة النهضة التي صدمت ناخبيها بهذا التحالف الذي عصف بأهم مطلب شعبي لتحقيق أهداف الثورة وهو محاربة الفساد فلو كانت الحركة تسعى حقيقة لتحقيق أهداف الثورة لكانت سعت إلى التحالف مع أحزاب الخط الثوري داخل البرلمان ولكن سعيها وراء السلطة مهما كانت السبل جعلها تسقط سقوطا أخلاقيا وسياسيا كبيرا ستدفع ثمنه عاجلا أم آجلا وتكرّس بذلك مقولة عدم انتماء حركة النهضة للثورة التونسية و بأنها حركة مسقطة على هذه الثورة تستغلها للوصول للسلطة كشعار ثم ترمي مبادءها ومطالبها في أول محطة بعد مسك مقاليد الحكم.
الخروج من الباب الكبير ليس مضمونا
من خلال تفكير الشيخ راشد الغنوشي و المقربين منه في الحركة خاصة أعضاء المكتب التنفيذي يرون أنهم حققوا هدفا كبيرا كانوا يسعون وراءه منذ عقود خلت وهذا حقهم الطبيعي فكل حزب غايته الأساسية هي مباشرة الحكم و تقلد المناصب السيادية من طرف زعمائه لتطبيق برامجه السياسية و الاجتماعية، لكن البحث عن خروج مشرف و من الباب الكبير لأهم شخصية نهضاوية ليس مضمونا أو على الأقل بالطريقة التي يشتهيها داعموه فمن اللحظة الأولى كان واضحا للعيان أنه أصبح الآن في مرمى سهل ودائم أمام نيران خصومه و أعدائه، للمفارقة أن تولي الشيخ راشد الغنوشي لهذا المنصب سيكون فرصة لكل من كانوا يحلمون بمواجهته ولم تتوفر لهم هذه الفرصة سابقا في برامج التلفزات و الإذاعات فما بالك في جلسات برلمانية صاخبة وتحت أضواء عدسات كاميرات النقل التلفزي المباشر مما سيجعلون نرى الغنوشي تحت ضغط تعمد هؤلاء النواب الخصوم إلى مهاجمته و السعي إلى التقليل من شأنه كلما سنحت الفرصة و البداية كانت في هذا الاتجاه من خلال مهاجمة النائبة عبير موسي لراشد الغنوشي ومخاطبته بــــ “يا شيخ الإخوان”.
هذا الوضع يمثل مغامرة بالنسبة للغنوشي نظرا لمكانته وصورته الاعتبارية كمؤسس أول حركة ذات توجه أو خلفية إسلامية بتونس لذلك هذه التجربة قد تكلفه غاليا خاصة أنه لن يعود ذلك الشخص المتمترس وراء برجه العاجي ويتجنب المواجهات المباشرة مع خصومه و أعدائه وما كان يقال له من بعيد سوف يستمع له رغم عنه مباشرة و أمام الملأ بحكم أن القانون يفرض على رئيس البرلمان ترأس بعض الجلسات، وهذا ما كان يدركه البعض من أعضاء حركة النهضة من بينهم الشيخ عبد الفتاح مورو الذي كان دائما يتحدث عن ضرورة عدم إعطاء تلك الفرصة لمعارضيه للنيل منه ولكن يبدو أن وهج السلطة أقوى من هذه النصائح.
معطى آخر لا يقل أهمية وهو هشاشة التحالف الذي أوصل الغنوشي إلى رئاسة البرلمان فهذا التحالف مربوط إرتباطا عضويا بمسائل أخرى كالمسار الحكومي ورغبة حزب قلب تونس في مباشرة الحكم ومرتبط خاصة بمآل الملفات القضائية المفتوحة ضد نبيل القروي الذي يظن لوقت قريب أن النهضة هي من تحرّك هذه الملفات ضده، ومع ابتعاد كتلة النهضة عن الكتل الأخرى القريبة من الخط الثوري كالتيار الديمقراطي و حركة الشعب إضافة لتحيا تونس فإن المشهد داخل البرلمان يمكن أن ينقلب في أي لحظة ويجد الغنوشي نفسه معزولا.
شارك رأيك