من مفارقات السياسة المالية للحكومة التونسية أنه بعد 2011 تضاعفت أجور الموظفين تقريبا 100% ولكن القدرة الشرائية انخفضت بحوالي 30% ونسبة تداين الأسر ارتفعت والمشاكل الاجتماعية تكاثرت. أين يكمن الخلل في كل هذا ؟
بقلم فوزي العبيدي
شهدت بداية السنة الحالية تحصل قطاع الوظيفة العمومية على زيادات مالية فاقت 650 مليار من المليمات، إضافة إلى الزيادات في المرتبات التي تحصل عليها الموظفون المنتمون للقطاع العام المتكون أساسا من الدواوين والشركات العمومية، مما سلّط بشكل واضح ضغوطا كبيرة على البنوك و فروعها الجهوية لتوفير السيولة اللازمة من العملة النقدية لتوفير حاجيات حرفائها من الأموال المسحوبة، حيث ترافقت فترة سحب الموظفين لمرتباتهم بعديد الإشكاليات على مستوى هذه الفروع، حيث أضطر بعضها إلى إيقاف عمليات سحب النقود من طرف الموظفين وغيرهم حتى يتم إعادة التزود بالسيولة من جديد.
وبعد كل هذه الأموال المسحوبةلم يسترجع القطاع البنكي الشيء الكثير من هذه السيولة المسحوبة، مما أثر على نشاط فروعها التجارية خلال الفترة الحالية بينما غالبية الموظفين وجدوا أن هذه الزيادة ينطبق عليها المثل “لا تسمن ولاتغني من جوع”.
سياسة “زيد الماء زيد الدقيق” أضرت كثيرا بالموظف
الزيادات الأخيرة في الوظيفة العمومية طال الحديث عليها كثيرا قبل صرفها في شهر جانفي 2020 فأصبحت محل انتظار الكثير من الموظفين باعتبار أنها تشمل ملحق زيادة من شهر جويلية 2019 إلى حد الآن بمبلغ جملي 280 دينار تضاف لها زيادة شهر جانفي 2020 بمبلغ 50 دينار ولكن من حصيلة 330 دينار خام لم تصل للموظف إلا مبلغ في أقصاه 220 دينار ليكتشف أغلب الموظفين أن الفارق المتمثل في 110 دينار قد ذهبت أغلبها نحو تمويل الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية لتمويل منظومة التقاعد المتهالكة بتوظيف واحد بالمائة زيادة على المرتب الخام للموظفين,
إضافة لذلك لاحظ أغلب الموظفين أن نسبة الاقتطاعات بعنوان الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين (IRPP) قد ارتفعت بنسبة كبيرة فأصبحت هذه الضريبة تمثل إجمالا ما بين 25% و 30% من المرتب الخام، وذلك بحكم الزيادات المتتالية التي تم إقرارها في قوانين المالية خاصة قانوني المالية لسنة 2017 و 2018 والتي نصّت على الزيادة في نسب الاقتطاع المنصوص عليها في الجدول التقني لكل شريحة دخل المعتمد لاحتساب الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين، في مقابل عدم تحيين أي من العناصر المرتبطة باحتساب الدخل الصافي الخاضع للضريبة كالأعباء المتزايدة التي يتحملها الموظف للحصول على هذا الدخل كإرتفاع كلفة النقل والمواصلات وعدم الترفيع في المبالغ المخصصة للإعتناء بالأبناء والأصول في الكفالة، حيث أن المبالغ الحالية التي تُقرّ بها مجلة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين لطرحها من قاعدة احتساب الأداء السنوي للموظف تعتبر زهيدة جدا ولا تعبّر عن واقع الأسعار والكلفة الحقيقية لذلك.
لقد أصبحت كل زيادة على أرض الواقع يتم اقتسامها تقريبا بين الموظف والخصومات بعنوان الضريبة على الدخل و التقاعد وصندوق التأمين على المرض والباقي يذهب لتغطية ما تم إضافته من زيادة على نسبة الفائدة المديرية ونسبة الفائدة المخصصة للبنك، ولا ينقطع مسلسل المستنقعات التي تعترض هذه الزيادة بل تجابه الموظف بعد كل زيادة موجة من الزيادات في كافة المواد الاستهلاكية ليجد نفسه في حصيلة سلبية تنعكس تراجعا كبيرا في قدرته الشرائية ولا ينتفع بأي زيادة مالية بل تتحوّل وبالا عليه، فأصبح الموظف التونسي من أتعس الطبقات الاجتماعية.
بعد 2011 زادت الأجور بنسبة 100% ولكن القدرة الشرائية إنخفضت بحوالي 30%
لقد أصبح واضحا بالمكشوف لجميع الموظفين والشغالين عموما أن الزيادات العديدة في أجورهم ومنحهم الخصوصيةلم تمثل حلا حقيقيا بالنسبة لهم وأن الزيادة النقدية في الراتب لا تعني بالضرورة زيادة في القدرة الشرائية، وهذا ما بيّنته الأيام، فبعد 2011 تضاعفت الأجور تقريبا 100% ولكن القدرة الشرائية إنخفضت بحوالي 30% ونسبة تداين الأسر ارتفعت والمشاكل الاجتماعية تكاثرت.
هذه الوضعية تتطلب في البداية وعيا واستيعابا لدقة المرحلة والوضعية الصعبة لاقتصادنا الذي يعاني من حالة جمود على مستوى النمو مما ينعكس سلبا على توفير الموارد المالية لتمويل أي زيادة جديدة بدون وجود إنتاج حقيقي، مما يترتب عنه الدخول من جديد في متاهة تمويل زيادات الأجور عن طريق الزيادة في الأداءات والضرائب والتي بدورها تؤدي إلى ارتفاع نسبة التضخم، فعوض أن تكون الزيادة لصالح الطبقة الشغيلة تصبح بالعكس مصدر إنهاك لقدرتها الشرائية.
لذلك لا بد من عقد اجتماعي جديد يكون متمحورا حول تدعيم القدرة الشرائية للموظف والمواطن التونسي عامة وليس بنظرة ضيقة تستهدف زيادة نقدية للأجور لم ينتفع منها الموظف ولا الاقتصاد الوطني الذي يتطلب بدوره وجود طبقة شغيلة قادرة على تكوين قاعدة استهلاك داخلي مهمة فبدون استهلاك داخلي في المستوى لن يستطيع الاقتصاد الوطني التطور.
الحاجة الأكيدة إلى عقد اجتماعي جديد
هذا العقد الإجتماعي يجب أن يكون مبنيا على حل المشاكل الحقيقية التي تعترض الاستهلاك العائلي وأولها مشكلة السكن الذي يمثل النسبة الأكبر من مصاريف العائلة شهريا، وهو يمثل العائق الأهم أمام تحسن القدرة الشرائية للمواطن التونسي، ثانيا المجال الصحي وما أدراك الصحة التي تمثل حقيقة العامل الأساسي للمرور بالمجتمع من مرحلة الاستهلاك نحو ثقافة حقيقية للتنمية البشرية المستديمة التي تعمل عليها كافة البلدان المتقدمة، ثالثا البعد التعليمي والذي أصبح الهاجس الأكبر لكل تونسي ويمثل عبئا ماليا كبيرا في ظل تدهور التعليم العمومي والارتكاز فقط على التعليم الخاص.
إن التوجه نحو نقطة مشتركة تتمحور على تنمية عوامل كالصحة، النقل، السكن والتعليم تساهم في دعم القدرة الشرائية للمواطن وفي نفس الوقت تساهم في دعم الاقتصاد الوطني و إنتاجيته.
شارك رأيك