يبدو أن حروب الزعامات و الاستقطاب لم تعد تقتصر على الأحزاب فقط بل امتدّت كذلك إلى أروقة الإتحاد العام التونسي للشغل بعد أن أصبح الحرس القديم للمنظمة النقابية بزعامة نور الدين الطبوبي الأمين العام الحالي وشخصيات ممثلة في المكتب التنفيذي كبوعلي المباركي، سامي الطاهري وسمير الشفي، يبحثون عن التمديد بعهدة ثالثة من خلال عقد مؤتمر استثنائي لتنقيح النظام الداخلي، وهو ما ينذر بمواجهة كبرى داخل مؤسسات الإتحاد ستكون لها انعكاسات و ارتدادات على القلعة النقابية التاريخية لتونس، خاصة أن عديد الزعماء من الصف الثاني ضد هذا التوجه ويرون أنه حان الوقت للتغيير الجذري على رأس أهم مؤسسة مركزية بالإتحاد، وهي المكتب التنفيذي.
بقلم فيروز الشاذلي
جدار الرفض للتمديد يتزعمه كل من الأسعد اليعقوبي، كاتب عام الجامعة العامة للتعليم الثانوي، و عبد الله القمودي، كاتب عام الجامعة العامة للتخطيط و المالية، وبعض الشخصيات التي تم إبعادها سابقا من طرف الطبوبي كالعضو السابق بمكتب للإتحاد الجهوي للشغل بتونس الحبيب جرجير.
نور الدين الطبوبي المسنود بالشق الموالي له بالمكتب التنفيذي يعوّل على تمكنه من مفاصل الإتحاد، وكيف لا وهو يتزعم التيار البيروقراطي منذ سنوات خلت، فحتى في ظل تزعم الأمين العام السابق حسين العباسي يعتبر الطبوبي هو الآمر الناهي في أروقة الإتحاد، لكن هل ينجح الأمين العام الحالي في مسعاه، خاصة أنه يخوض حربا ضد مسار التاريخ كون تونس تتقدم قدما نحو دمقرطة العمل في الحياة العامة سواء في الشق السياسي أو النقابي.
سيطرة البيروقراطية النقابية على الإتحاد
ما يبدو واضحا هو افتقاد هيكلة الإتحاد لديناميكية التغيير والتدافع الفكري بحكم سيطرة الشخصيات البيروقراطية على مراكز القرار في ظرف تحتاج فيه المنظمة إلى خيرة مناضليها للاستفادة من طاقاتهم النضالية وتوظيف رؤيتهم التجديدية لدور الإتحاد كأهم منظمة شغيلة مما يساهم في تدعيم الوحدة الداخلية في مواجهة المستجدات القادمة، لكن للحرس القديم حسابات أخرى مما جعلنا أمام مؤتمرات انتخابية أشبه ما يكون إلى تعيينات مسبقة لقائمة بعينها تكون من صنع المكتب التنفيذي السابق منذ عهد عبد السلام جراد، الأمين العام للإتحاد قبل الثورة، مرورا بخلفه بعد الثورة الحسين العباسي ثم نور الدين الطبوبي، و إن كان متزعمي هذه الديماغوجية الذين يحملون لافتات ومبررات الوصول للأجدر عبر الانتخابات نذكّرهم أولا أن وجود شكلية الانتخابات ليس بالضرورة تعبير على الديمقراطية النقابية فأعتى الديكتاتوريات تبرر سلطتها بالانتخابات الشكلية، ثانيا لا بد أن يعرفوا أن ممارسة الديمقراطية النقابية لا تتمثل فقط في بنود وفصول النظام الداخلي وكيف يتم تكييفها لصالحهم عند الاحتكام إليها لتكون على مقاسهم أثناء حدوث إشكاليات و اختلافات جراء قراءات متباينة لمخرجات النظام الداخلي بل الديمقراطية النقابية عبارة عن ممارسة يومية يتم تكريسها لحماية المنظمة الشغيلة من إنحرافات المسؤولين وتجنيبها القرارات الفردية، وذلك أساسا عن طريق تمكين النقابيين بمختلف مستوياتهم من القواعد نحو قمة الإتحاد من حرية التعبير عن آرائهم المختلفة وعدم الخضوع لسياسية التجميد بسبب الرأي المخالف كما وقع مع النقابي القدير الحبيب جرجير و الذي تم إبعاده من الإتحاد الجهوي للشغل بتونس بسبب نقده و أرائه المختلفة مع الأمين العام نور الدين الطبوبي.
الأكيد إذا أن عقلية التسلط، التي يمارسها الحرس القديم الذي يمثل جيل البيروقراطية في الإتحاد و الذي نجح في السيطرة و التحكم في كل تشكيلات المكتب التنفيذي المنبثقة على المؤتمرات السابقة، مازالت متواصلة بحكم أن نور الدين الطبوبي يعتبر من متزعمي هذه البيروقراطية حتى قبل أن يصل إلى مركز الأمين العام حين كان عضو المجلس التنفيذي.
انعكاسات سلبية على قلعة الإتحاد
ربما كان لـلإتحاد في السنوات الأولى للثورة نوع من الحصانة تجاه النقد بحكم دخول قواعده خاصة على مستوى الجهات في حراك الثورة وتبني مطالبها، لكن في ظل حراك الديمقراطية فإن جميع الهياكل المكونة للمنظومة المجتمعية ككل ستخضع بالضرورة لرؤية نقدية سواء من خارج منظمة الإتحاد أو من قبل تيارات نقدية داخلية تبغي التغيير، لذلك تبيّن مع مرور الأيام أن تواصل وهيمنة النفس البيروقراطي على هياكل الإتحاد خاصة المجلس التنفيذي بزعامة نور الدين الطبوبي في شكل وراثة نقابية أصبحت لديها انعكاسات سلبية جدا على قلعة الإتحاد نفسه،ا وهذا يرجع بالأساس إلى أن تداول مقاليد إدارة أهم معقل نقابي في تونس بهذا الشكل أفرز وصول قيادات لم تكن لتصل إلى مركز القيادة لو لا وجود هذه الزمرة من الحرس القديم الجاثمة على ماكينة الإتحاد.
أبرز مثال على ذلك التخبط السياسي الذي شهده دور الإتحاد بسبب انعدام الرؤية السياسية للأمين العام الحالي، فنور الدين الطبوبي، عكس الأمين العام الأسبق الحسين العباسي الذي نجح في استعادة الدور السياسي المفقود للإتحاد منذ سبعينات القرن الماضي والذي أعطى إضافة كبرى للمنظمة وعزز موقفه التفاوضي مع الحكومات المتعاقبة بشأن المفاوضات الاجتماعية بحيث أصبح القوة الفاعلة الأولى في البلاد متجاوزا بذلك الأحزاب التي من المفروض أن تكون هي المسيطرة على الحياة السياسية، وهذا كله بفضل الفطنة السياسية للعباسي، لكن هذا الوهج السياسي لقلعة ساحة محمد علي إرتدّ سلبا في عهد خلفه نور الدين الطبوبي الذي وصل إلى منصب الأمين العام بفضل الحرس القديم المسيطر على المكتب التنفيذي فيما يشبه التعيين المقنع بالانتخابات، فكثرت أخطاء نور الدين الطبوبي ليدخل في البداية في سلسلة تناقضات في المواقف من خلال دعم حكومة الشاهد بالإمضاء على وثيقة قرطاج الأولى، ثم بعد ذلك يطالب بتغيير الشاهد جراء فشل وثيقة قرطاج الثانية، ويجد الإتحاد نفسه يخسر رهان المطالبة بتغيير حكومة الشاهد التي أكملت كامل الفترة المتبقية لها و الإتحاد يجبر على التراجع على هذا المطلب ويتعامل مع هذه الحكومة بخصوص الملفات الاجتماعية العالقة.
فقدان البصيرة و الاستشراف السياسي لنور الدين الطبوبي تواصل كذلك مع الزج بالإتحاد في الإصطفاف السياسي وراء المرشح للانتخابات الرئاسية عبد الكريم الزبيدي والذي هز كثيرا من صورة الإتحاد بحكم انقلاب الآية، فعوض أن يدخل الإتحاد لدعم حظوظ هذا المرشح وجدنا أن التصاق اسم الزبيدي بالإتحاد كان مضرا به لعدة معطيات أهمها أن دعم مرشح بعينه سوف يصبح في حد ذاته تصويتا واستفتاءا سياسيا على الإتحاد وبخسارة الزبيدي من الدور الأول فقد خسر معه الإتحاد كذلك.
من جهة أخرى، الاصطفاف وراء الزبيدي في جبهة تضم شخصيات تثير التحفظ داخل الشارع التونسي كرجل الأعمال ومحرك اللوبيات المشبوهة كمال اللطيّف أثار سيلا من الانتقادات على اختيارات قيادة الإتحاد ممثلة في شخص نور الدين الطبوبي. كما أن هذا الدخول في معترك الحملة الانتخابية قد أثار انقسامات عدة داخل هياكل الإتحاد رفضا لهذا الاصطفاف بحكم الاختلافات الفكرية و السياسية داخل الهياكل مما دفع بقيادات من الصف الثاني كالأسعد اليعقوبي، الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي، للخروج علنا وانتقاد الطبوبي بصفة لاذعة على هذا التمشي ليجبر نور الدين الطبوبي لاحقا على التراجع و التصريح بحيادية الإتحاد تجاه المتنافسين للسباق الرئاسي في الدور الثاني.
التغيير حتمية تاريخية
لا يمكن لمنظمة تاريخية وعريقة وذات امتداد شعبي كبير أن تبقى خارج سياق التحولات الديمقراطية التي تعيشها تونس في هذه المرحلة وسيكون ذلك سواءا بإرادة ذاتية من قيادات الحرس القديم للمكتب التنفيذي أو رغما عنه لأننا نعيش عصر التغيير كحتمية تاريخية لا تقبل المقايضة مبنية على ترجمة إرادة القواعد مرورا بهياكلها الجهوية والقطاعية وصولا إلى المركزية النقابية ممثلة في الهيئة الإدارية الوطنية والمجلس التنفيذي، وذلك من خلال فتح والمناقشة الحقيقية لملف الديمقراطية النقابية خاصة على مستوى إشراك القواعد في أخذ القرارات و القطع مع الممارسات السابقة من التضييق على كل من يخالف الرأي أو يقوم بأي انتقاد للقيادة المركزية مادام هذا الشخص يمثل قطاعا معينا تم إنتخابه إنتخابا حرا.
من جهة أخرى لا بد من القطع مع سياسة التوارث النقابي بعقلية الحرس القديم الذي يمثل البيروقراطية النقابية داخل الإتحاد من خلال الحرص على سحب شرط عدم تجاوز المدتين النيابيتين على كافة أعضاء المجلس التنفيذي وليس فقط الأمين العام باعتباره أهم هيكل نقابي داخل الإتحاد، مما يتيح للقوى المجدّدة داخل المنظمة بالتداول على مراكز القرار و إعطاء ديناميكية جديدة للعمل النقابي بهذه المنظمة، وهو ما سيمثل تغييرا جوهريا في مسيرة الإتحاد وستمثل داعما لاستقلالية المنظمة الشغيلة.
شارك رأيك