أصدر شكري لطيف، رئيس الائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام، يوم 15 أفريل 2020، البيان التالي ردا على الدعوة التي أطلقها النائب عبد اللطيف العلوي في الجلسة العامة لمجلس النواب يوم 14 افريل 2020 لـــ”تفعيل عقوبة الإعدام في تونس نصرة للمجتمع التونسي وحفاظا على كرامته” حسب زعمه. و في ما يلي نص البيان…
بقلم : شكري لطيف *
يشهدُ مجتمعنا حدوث جرائم بشعة تتولّد عنها ضحايا ومـآس مؤلمة. ومن الضروري التأكيد على أنّ ذلك ليس بالأمر المستجدّ. الأمر الجديد هو أن الإعلام عنها خرج عن دائرة المسكوت عنه /المخفيّ، وأصبح الآن محلّ اطلاع الرأي العام الواسع، بفضل تحرّر الإعلام من سطوة المراقبة التي كانت سائدة أثناء فترة الدكتاتورية.
يتطلّب التعامل مع ظواهر العنف في كل تجلياتها لفظية كانت أو مادية، جنائية أو “إرهابية”، معالجة وفق مقاربات شاملة بهدف الحدّ منها ووقاية المجتمع وتحصينه وصولا لاجتثاثها منه. ولن يتأتّى ذلك دون تفكيك العوامل الاجتماعية والنفسية والثقافية والتربوية التي أدّت متداخلة لبروز تلك الظواهر ونموها وتقشّيها.
غير أنّنا نلاحظ، خاصة لدى بعض السياسيين- توخّيهم عوضا عن ذلك تمشيّات تسيرُ في اتّجاه معاكس للطريق المطلوب للتصدّي للعنف وللجريمة. وهي في الواقع محاولات مشبوهة لتوظيف آلام الناس ومآسيهم للدعوة لتسويق مواقف متناقضة مع احترام الذات البشرية من كل انتهاك مادي أو معنوي تناسقا مع جوهر المشروع السياسي الكلياني الذي يطمحون لتحقيقه.
وقد تجسّم ذلك بالخصوص مُؤخّرا في الدعوة التي أطلقها النائب عبد اللطيف العلوي في الجلسة العامة لمجلس النواب يوم 14 افريل 2020 لـــ”تفعيل عقوبة الإعدام في تونس نصرة للمجتمع التونسي وحفاظا على كرامته ” حسب زعمه. ولم يتخلّف المعني بالأمر كالعادة من توجيه أقذع النعوت لمناضلي حقوق الإنسان الذين وصفهم بـــــ”المنافقين الذين يدافعون عن المجرمين ولا يدافعون عن ضحاياهم “.
الخلفية الجديدة/القديمة لتفعيل عقوبة الإعدام في تونس
وتمثلّت خلفية هذه الدعوة الجديدة/القديمة لتفعيل عقوبة الإعدام في تونس والتهجّم على المناضلين والمناضلات الديمقراطيين ، في حادثة الخطف والاغتصاب الفظيعة التي تعرّضت لها شابّة تونسية والتي أدّت لشللها وإصابتها بمضاعفات صحية خطيرة.
وإذ تنفهّم صدمة غالبية الرأي العام من هول هذه الجريمة وتعاطفهم مع الضحية ، فإننا نعتبر أنّ تعاطي النائب مختلف اختلافا جذريا عن ذلك ، وأنها محاولة بائسة لركوب وتوظيف الحادثة لغايات سياسية وايديولوجية بحتة لا علاقة لها بأي نوع من أنواع التعاطف أو المناصرة والدعم للضحية .
فعملية الاعتداء على الضحية تمّت يوم 20 مارس 2020، ولكن السيد النائب لم تتحرّك “شهامته” نحوها سوى يوم 14 أفريل 2020. واقتصرت تلك “الشهامة” على طلب تفعيل حكم الإعدام، وفي سبّ المناضلات والمناضلين الديمقراطيين. غير أنّ الضحية كانت في حاجة منذ تاريخ الاعتداء عليها إلى دعم ومساندة ومتابعة صحية ونفسية لم تجدْها لدى السيد النائب ولدى أمثاله ممّن يذرفون اليوم دموع التماسيح عليها. لقد خضعت الضحية مباشرة بعد حدوث الجريمة إلى عملية جراحية ثقيلة على عمودها الفقري في مستشفى الحروق ببن عروس. وبعد ثلاثة أيام من ذلك فحسب، طلبتْ منها إدارة المستشفى المغادرة في حين كان وضعها يتطلّب البقاء تحت المراقبة الطبية. واثر خروجها من المستشفى تدهورت حالتها الصحية ووقع إيواؤها لمدة يومين فقط في مستشفى الرابطة ثم طُلب منها أيضا المغادرة. وبعد تعذّر الايواء في المستشفيات العمومية نقلتها أختها وصديقاتها إلى مؤسسة استشفائية خاصة وهي في عجز مادي تام عن دفع المعاليم. وللتذكير، فان الضحية ليست ميسورة الحال وعائلتها تقطن داخل الجمهورية، وقد اضطّرت بدعم من جمع قليل من المقربين إلى دفع معاليم الإيواء في المستشفى العمومي بالرابطة والمستشفى العمومي ببن عروس. وكان ذلك في مخالفة صارخة للقانون عدد 58 لسنة 2017 الذي يضمن للنساء ضحايا العنف التداوي مجانا.
كانت الضحية بحاجة منذ يوم 20 مارس 2020 وما بعده إلى دعم ومرافقة فعلية وملموسة، ولولا جهود المقربين منها الذين اكتروا لها سريرا طبيا لكانت حالتها تعكّرتْ أكثر. ولكن السيد النائب لم يتحرّك إلا يوم 14 أفريل 2020 مقتصرا في”تحرّكه” على الشتم والدعوة للإعدام. و الوقائع تبيّنُ بجلاء من يجوز في هذه الحالة وصفه بالنفاق.
قد فات السيد النائب أنّ إعلام الرأي العام الواسع بالحادثة والدعوة العاجلة لإنقاذ ونجدة الضحية قام بها كاتب هذه السطور اثر اتّصال من صديقاتها، وأنّ حملة دعمها ومرافقتها قامت بها اثر ذلك مناضلات الحركة الديمقراطية النسوية، وأثمر كل ذلك دعم مواطني جمعياتي نبيل واسع، والتزام وزارة المرأة ممثلة للدولة بكل مصاريف المداواة كما يضبطه القانون، وذلك بالإضافة إلى المتابعة القانونية للقضية لمقاضاة المجرمين.
وإذ سردْنا هذه الوقائع، فذلك للتأكيد على الدور الفعّال الذي يضطلع به مناضلات ومناضلو الحركة الديمقراطية في نجدة النساء ضحايا العنف في تونس وفي قضيّة الحال بالتحديد، وذلك دون ضجيج إعلامي أو توظيف اشهاري رخيص. وهو أيضا تذكير ضروري بأنّ الدفاع عن الحقّ في الحياة ورفضنا لعقوبة الإعدام يترادف لدينا قبل كل شيء مع الدفاع عن الضحايا والاهتمام بهم ومتابعة وضعهم عوض ما يقوم به الآخرون من نسيانهم والاقتصار على التركيز على مقترفي الجرائم. وذلك واجبنا الذي نُؤدّيه ولا نحيدُ عنه خلافا للادعاءات والتهجّمات الكاذبة.
ونحن إذ تستنكرُ مثل هذه الدعوات المقرفة التي تدعو للإعدام، فلأنّها في الحقيقة جزء من مشروع يميني متطرّف متكامل يُعادي احترام منظومة احترام حقوق الإنسان والشعوب في شموليتها دون تجزئة، وينفي مدنية الدولة وعلوية القوانين محتكما إلى علوية “الشريعة” كمصدر للتشريع بكلّ ما يتأتّى عن ذلك من تفعيل لا لعقوبة الإعدام فحسب بل لكلّ الانتهاكات للذات وللكرامة البشرية من تبرير وتفعيل للتعذيب والتمثيل والرجم وقطع الأيدي والأرجل…
عقوبة انتقامية وانتقائية تُمارسُها الطُغم الاستعمارية
ان غالبية دول العالم (147) ألغت عقوبة الإعدام وذلك يعني أنّ الإلغاء يُساير حركة التاريخ وتطوره ويمضي قدما في اتجاه تخليص البشرية من هذه العقوبة الوحشية على غرار تخلّصها من العبودية والعنصرية والاستعمار.
ولا تتميّز مثل هذه الدعوات فقط بتعارضها مع مسار التاريخ ، بل هي تقوم كذلك بنسف الحقّ في الحياة بصفته حقّا أساسيا كما يُعرّفُه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والفصل 22 من الدستور التونسي. ومن البديهي انه لا يمكن للدولة أن تنْهى عن القتل ثم ترتكبه بمقتضى القانون، فذلك يُعزّزُ مشاعر الكراهية والحقد ويُنمّي نزعات الانتقام.
نحن نعارض هذه العقوبة لأنّها عقوبة انتقامية وانتقائية تُمارسُها الطُغم الاستعمارية ضدّ المُقاومين لترهيب وإخضاع الشعوب، وتُمارسها الأنظمة الدكتاتورية لتصفية المُعارضين. وفي تونس ومنذ الاستقلال سنة 1956، بلغ عدد الأشخاص الذين نُفّذ فيهم حكم الإعدام 135 شخصا، أغلبهم استُهدف لأسباب سياسية. ولذا صار إلغاء الإعدام اليوم مرادفا للحرية والكرامة والديمقراطية.
كما أنّنا نعارضها لأنّها عقوبة غير رادعة. فلا يُوجدُ دليل في أيّ بلد في العالم على أنها تردعُ المُجرمين أكثر من العقوبات الأخرى، وأنّها تُقلّصُ عدد الأعمال الإجرامية، بل تؤكد الأرقام عكس ذلك في البلدان الملغية للعقوبة.
كما نعارضها لأنّها عقوبة غير قابلة للمراجعة بعد تنفيذها ظُلما في حقّ أبرياء بما يطمس الحقيقة ولا يُحقّقُ العدالة. وفي هذه الحالة تصبح الدولة مسؤولة على قتل شخص بريء. والأمثلة على ذلك بالمئات في كل العالم وفي تونس.
ونُعارضها أخيرا لأنّها في كلّ المجتمعات القائمة على التفاوت، عقوبة تمييزية كثيرا ما تُسلّطُّ على الفئات الأكثر فقرا وهشاشة. وفي تونس تعكسُ الأحكام بالإعدام التفاوت الطبقي والجهوي الصارخ، إذ أن نسبة العمال اليوميين والعاطلين عن العمل والمُزارعين الفقراء تُناهز إلى حدود سنة 2019 الثُلُثين من جملة المحكومين بالإعدام، وهُم ينحدرون في الغالب من الجهات والمناطق المهمّشة.
انّه لمن المؤسف أن يقع استغلال المآسي وتوظيفها سياسيا وإيديولوجيا للدفع بالمجتمع للارتداد إلى عهود الثأر والقصاص البائدة. فدموع الضحية وألمها يتطلب الترفّع عن كلّ استغلال وتوظيف. كما أنّ الدفاع عن “كرامة المجتمع التونسي” وتحصينه من كافة أنواع الجريمة والعنف لا يكون بالشحن والتجييش الشعبوي على الانتقام والقصاص وشريعة العين بالعين، بل بالعمل على اجتثاث شروط إنتاج وإعادة إنتاج الجريمة والعنف وبحماية المجتمع ووقايته بالسجن والعزل الاستباقي للمجرمين الخطيرين قبل ارتكابهم للجرائم وليس بعد فوات الأوان…
* رئيس الائتلاف التونسي لإلغاء عقوبة الإعدام.
شارك رأيك