في ظل الوضعية البائسة التي يعيشها منذ 2011 لا يمكن أن نلوم الشعب التونسي على حنينه للعهد السابق، فبٱستثناء قلة قليلة من المنتفعين بالتعويضات والمناصب، و”أثرياء الثورة ” من المتحيلين والمهربين، ولوبيات الفساد السياسي، والمغرر بهم ممن صادروا عقولهم فإن الأغلبية الساحقة من الشعب تعيش البؤس بكل أشكاله وتنظر إلى الماضي القريب بكثير من الحنين.
بقلم مصطفي عطية *
يتساءل الكثير من الباحثين في شؤون المجتمعات وفي أسباب وتداعيات التحولات التي غيرت مساراتها، عن الدواعي التي تجعل أغلب الشعوب التي فجرت ثورات أو انتفاضات ضد أنظمتها السياسية القائمة، تحن بعد مدة قصيرة إلى تلك الأنظمة التي ثارت عليها وأسقطتها ؟
الوعود “الثورجية” وخيبة أمل الناس
جاب الكاتب والمفكر الديمقراطي الراحل، وأول رئيس منتخب لجمهورية تشيكيا بعد سقوط النظام الشيوعي، فاكلاف هافال، عن هذا السؤال بواقعية وموضوعية، دون أن يتهم “أزلام” النظام السابق بمحاولة “تفجير ثورة مضادة” كما يدعي الجماعة في بلادنا، وقال بوضوح تام وجرأة فكرية وسياسية لا يمتلكها سياسيونا : “السبب هو أن راكبي سروج الثورة عادة ما يجنحون إلى الرفع من سقف الوعود إلى أعلى مستوى ممكن، وعندما يصدمهم الواقع يجدون أنفسهم بلا مصداقية تجاه شعوبهم” !
تذكرت هذا القول البليغ والعديد من فئات الشعب التونسي أصبحت تترحم على النظام السابق بعد أن طغت مظاهر البؤس والألم والحيرة والضياع على حياة الناس، وبدا جليا وواضحا أن الأزمات عصفت بهم، وٱنسداد الأفق أحبطهم، وعجز السياسيين عن إيقاف عجلة الإنحدار دمر آخر معاقل الأمل في قلوبهم. فأينما تمر لا تلاقي إلا الوجوه العابسة والمكفهرة التي نهشتها المتاعب، وكلما تطرقت إلى مسألة من المسائل المطروحة إلا وكان اليأس عنوان كل حوار وجدال ونقاش!
لاشيء غير الزفرات الحرى والآهات المحمومة
كيف يفقد شعب بهجته بهذه السرعة وبشكل يكاد يكون جماعيا وعاما ويحن إلى النظام السابق الذي أسقطه بعد اتهامه بالعسف والظلم والفساد؟
السؤال لن يجيب عنه أخصائيو علم النفس والإجتماع الذين طفوا كالفقاقيع بعد الرابع عشر من جانفي 2011 وٱحتلوا أماكن قارة في بلاتوهات الإفلاس الأعلامي والفكري والمعرفي والإثارة الرخيصة، لأنهم جزء من كآبة الشعب التونسي، ولا السياسيون الذين أرغموا هذا الشعب المنكوب على النفور من السياسة، ولا أيضا، المسؤولون الذين أغرقوه في الوعود الزائفة ثم نهبوه وجوعوه وفرطوا في مكاسبه، وٱحترفوا الضحك على ذقنه، فالمواطن التونسي العادي هو الوحيد القادر على تقديم إجابة مقنعة عن سبب فقدانه لبهجته وٱبتسامته وسقوطه في ظلمات الكآبة، وعن حنينه المتنامي للنظام السابق.
عندما تتجول في الأسواق العامة والمساحات التجارية وملاعب الكرة وأنهج وأزقة المدن والقرى وتجلس في المقاهي والحدائق وتستمع لما يردده المواطنون، تجد الإجابة على كل الأفواه، تصحبها زفرات وآهات محمومة.
لقد عم الإحباط جميع الناس، وليس الحرية المنفلتة والصراعات والمزايدات التي تذكي نيرانها وسائل إعلام الإثارة، ولا المواجهات الفوضوية، المشحونة بمنسوب كبير من قلة الأدب والحياء، ولا مهازل وفضائح بعض السياسيين التي أصبحت مادة للتندر والإستهزاء، هي التي ستعيد للتونسيين إبتسامتهم المفقودة وتنسيهم في النظام السابق.
المنتفعون بالتعويضات والمناصب و”أثرياء الثورة”
لم يكن النظام السابق، سواء في عهد بورقيبة أو بن علي، مثاليا أو ناصع اليدين، ولكنه حافظ على الحد الأدنى من هيبة الدولة وأمن المواطن وقوت يومه والكثير من حقوقه، لم تكن الحريات متوفرة ولكن مساحة الفوضى كانت ضيقة جدا ولم يكن النظام ديمقراطيا ولكن منسوب الغش لديه لا يقل عما هو موجود اليوم في ظل ما يسمى بالديمقراطية، كان الفساد مستشريا ولكنه كان محصورا في دائرة عائلية ضيقة، أما اليوم فقد غمر قطاعات كاملة أمام مرأى ومسمع من شعب أصبح مصنفا كرابع أفقر شعب في العالم العربي ويعاني من الأوبئة التي قضى عليها نظام بورقيبة منذ أكثر من نصف قرن.
إن الشعوب ترنو إلى الديمقراطية والحرية وليس إلى الفوضى والإنفلات، وتطالب بالأمن والإستقرار وليس بتبرير الإرهاب بٱسم حقوق الإنسان، وتطمح إلى العيش الكريم في ظل العدالة الإجتماعية والكسب القانوني والوقاية الصحية وضمان التعليم وحق الشغل.
كل هذه الطموحات لم تحقق منها الحكومات التي تعاقبت منذ 14 جانفي 2011 شيئا، بل الأدهى والأمر أنها فرطت في كل المكاسب التي تحققت على امتداد أكثر من ستة عقود من الزمن.
في هذه الوضعية البائسة لا نلوم الشعب على حنينه للعهد السابق، فبٱستثناء قلة قليلة من المنتفعين بالتعويضات والمناصب، و”أثرياء الثورة ” من المتحيلين والمهربين، ولوبيات الفساد، والمغرر بهم ممن صادروا عقولهم فإن الأغلبية الساحقة من الشعب تعيش البؤس بكل أشكاله وتنظر إلى الماضي القريب بكثير من الحنين.
شارك رأيك