أن يستقيل إلياس الفخفاخ من رئاسة الحكومة أو يقال، وأن تسحب الثقة من رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي أو لا تسحب بتراجع الكثير من ممن عبروا عن مساندتهم لهذا الإجراء بعد أن تم إغراؤهم بوعود الإنتساب للحكومة القادمة ! فإن المأساة التي تعيشها البلاد سوف تستفحل أكثر ما دمنا بعيدين جدا عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذه الوضعية الدرامية ذات التداعيات الكارثية على الشعب بكل فئاته، بٱستثناء سراق الثورة وأثريائها وناهبي أموال الشعب تحت ذريعة التعويضات.
بقلم مصطفى عطية *
ما زلت أتذكر قولة الراحل فاكلاف هافال، أول رئيس منتخب لجمهورية تشيكيا بعد سقوط النظام الشيوعي، وهو الذي قضى ثلاثة أرباع حياته معارضا مهجرا في الخارج : “دورنا هو صناعة المستحيل” ! لم يكن يتحدث من فراغ أو يوزع الوعود بطريقة شعبوية بل كان على يقين من أن إستراتيجيته ستثمر ما عاهد به مواطنيه، لأنها مبنية على ثلاثة عناصر أساسية هي إقرار مصالحة وطنية فورية تقطع الطريق أمام الحقد والكراهية والثأر والإقصاء، وتأمين تواصل أجهزة الدولة، والمحافظة على الطبقة الوسطى في المجتمع ومزيد تدعيمها.
ما أبعدنا عن فكر الإنقاذ الحقيقي
هكذا صنعت تشيكيا المستحيل فتجاوزت الفترة الإنتقالية بنجاح وٱرتقت إلى مصاف الدول المتقدمة. كنا نتمنى لو إتبعت بلادنا هذا المسار وعملت بٱستراتيجية فاكلاف هافال وبنصيحة الزعيم الراحل نلسن مانديلا خاصة وأن مآثر عظماء بلادنا تزخر بمثل هذه المواقف الإصلاحية بدءا بقولة حنبعل : “إذا لم نجد الحل فسوف نبتكره” وصولا إلى شعار الحبيب بورقيبة : “لا خوف على تونس إلا من فتن أبنائها “.
الله إبتلى تونس خلال هذه العشرية الملتحفة بالجمر بمن أرادوا لها طريقا محفوفا بالحقد الأسود فضاعت العديد من فرص الإنقاذ وغرقت البلاد في مستنقعات الإنحدار الشامل. تعثرت المصالحة وتعمقت التفرقة في ظل إضطرام غير معهود لنيران الحقد والكراهية، وٱضطربت أجهزة الدولة بعد إستهدافها والتشكيك فيها وٱختراقها، وشهدت الطبقة الوسطى تدميرا ممنهجا ليختل التوازن الذي كان قائما في كل المجالات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، ونتج عنه في العهد السابق نشوء منظومة فكرية وٱجتماعية وسطية سرعان ما أصبحت الظاهرة الغالبة في المجتمع التونسي والركيزة الأساسية في نسيجه، وبالتالي الجسر الآمن للبلد وبوصلته التي تحدد إتجاهاته ومساراته.
تعطلت “الفرامل” فعمت البلاد فوضى عارمة
كانت هذه المنظومة بمثابة “الفرامل” الأولى التي كبحت جماح الحراك الشعبي الذي أطاح بالنظام السابق حتى لا يتحول إلى إنفلات مدمر كما حدث في بلدان أخرى كالعراق واليمن وسوريا وليبيا، وكان في الحسبان أيضا أن يمثل ذلك منطلقا لدخول البلاد مرحلة الإصلاح والبناء، لكن حدث العكس تماما وتراكمت خيبات الأمل وعم الإحباط عموم الناس، خاصة بعد إنخرام المنظومة الإقتصادية وتدهور الأوضاع الإجتماعية وظهور الجماعات التكفيرية والخلايا الإرهابية وآنسحاب النخبة من معترك الفعل والإضافة ليحل محلها الشعبويون والدجالون والغوغائيون طيلة ما يقرب عن عشر سنوات من التردد والإرتباك وغياب الدولة ومؤسساتها حتى تفتتت المنظومة تدريجيا وٱتسعت الهوة بين التيارات الزاحفة من رحم التطرف الديني والعلماني على حد سواء.
عندما نعترف بهذه الحقيقة يمكننا تدارك الأخطاء السابقة ودخول مرحلة الإصلاح إستنادا إلى تشخيص موضوعي وبالتالي المشاركة في ما يسمى لدى الإصلاحيين في العالم المتقدم ب “صناعة المستحيل”، أما إذا ما واصلنا التعنت ونكران الحقيقة فسيبقى النفق مظلما ومسدودا ولن ينفعنا سحب الثقة من فلان وإقالة فلان إذ ما دامت المشاكل الأساسية قائمة فإن إقتلاع جذور الثوم وتعويضها بغراسة البصل لا ينفع البلاد والعباد بل يطيل أمد الأزمة ويكثف المخاطر ويقضي على ما تبقى من فرص الإصلاح والإنقاذ.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك