الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة تجاوز الإرث الظلامي برهانه على المرأة تدريجيا حتى وصل إلى توزيرها فكانت المرحومة فتحية مزالي أول إمرأة تونسية وعربية ترتقي إلى سدة الوزارة، وبالرغم أيضا من سعي خلفه زبن العابدين بن علي في مضاعفة عدد النساء في المواقع القيادية والحكومية، فإن التمثيلية النسائية بقيت رمزية بسبب تغلغل العقلية الذكورية في المجتمع وغياب إرادة حقيقية فاعلة بعيدة عن الشعبوية المموهة.
بقلم مصطفى عطية *
لا ينكر أغلب التونسيين مدى أهمية الدور الذي لعبته المرأة التونسية على امتداد تاريخنا الطويل، منذ أسست عليسة قرطاج العظيمة، مرورا بالملاحم البطولية للقائدة البربرية ديهيا، التي لقبها خصومها بالكاهنة، وعبقرية أروى القيروانية التي كانت أول إمرأة في تاريخ الإسلام تعترض على تعدد الزوجات فارضة إرادتها في هذا المجال، وصولا إلى المناضلات التونسيات زمن الكفاح الوطني وحفيداتهن اليوم في مواجهة قوى الرجعية والظلامية، وهو النضال الذي ما زالت المرأة التونسية تؤديه بالكفاءة ذاتها وربما أكثر.
غدر وخيبة أمل قاسية
أخذ هذا النضال، بعد حراك الرابع عشر من جانفي 2011، أبعادا نضالية ذات خصوصية تتلاءم مع تطورات الأحداث في البلاد، فالمرأة هي التي تصدت للإنحراف الذي كان سيحدث عندما حاول بعضهم سلبها مكاسبها بعد معارك ضارية مع قوى الرجعية، وهي التي قادت إعتصام الرحيل الذي أنهى حالة “المؤقت المغشوش” التي كانت ستطول إلى ما لا نهاية له، وهي التي هبت لنصرة القوى السياسية “الحداثية” في الإنتخابات بعد أن قدمت لها وعودا ذات مرجعية بورقيبية، ولكنها خانت وعودها بطريقة مثخنة بالإنتهازية واللهاث المحموم وراء المناصب والسعي الهستيري في نيل نصيب من الغنيمة، فكان مآلها الإندثار، ليتم الفرز مرة أخرى، وتولد حركات حداثية حقيقية تعيد للمرأة زخمها التحرري والتحديثي.
المحصلة ليست في حجم العطاء
إن عطاء المرأة التونسية لا حد له على جميع المستويات دون إستثناء، وبالرغم مما بلغته من مكانة إجتماعية فإنها مازالت لم ترتق إلى المستوى الذي يليق بها في المجال السياسي، كما أنها تتعرض لحملة ظلامية غير مسبوقة تهدد مكاسبها وهو ما تسبب في إثارة حفيظة المنظمات النسوية التي هددت بالتصعيد إذا ما تواصل إهمال طلباتها والتغافل عن حقوقها واستحقاقاتها، فالحكومات التي تتشكل بٱستمرار هي حكومات ذكورية ذات تمثيلية نسائية محدودة جدا ورمزية، في حين أن المرأة أصبحت ندا للرجل في كل المواقع، بل وتتفوق عليه في العديد منها، كما أنها تسبق الرجل في نسبة النجاح الدراسي والجامعي. لكن السياسيين وصانعي القرار مازالوا يتعاملون معها كقاصر في المجال السياسي الذي بقي حكرا أو يكاد على الذكور وذلك لعدة أسباب موروثة وأخرى مستجدة.
ما زلنا نجر إرثا رجعيا ثقيلا يعتبر المرأة غير قادرة على العمل السياسي، وبالرغم من المحاولات الرائدة التي أتاها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة لتجاوز هذا الإرث الظلامي برهانه على المرأة تدريجيا حتى وصل إلى توزيرها فكانت المرحومة فتحية مزالي أول إمرأة تونسية وعربية ترتقي إلى سدة الوزارة، وبالرغم أيضا من سعي خلفه زبن العابدين بن علي في مضاعفة عدد النساء في المواقع القيادية والحكومية، فإن التمثيلية النسائية بقيت رمزية بسبب تغلغل العقلية الذكورية في المجتمع وغياب إرادة حقيقية فاعلة بعيدة عن الشعبوية المموهة.
وفي الوقت الذي إنتظرت فيه المرأة إنصافا أكبر لنضالاتها وتفوقها في العديد من المجالات، جاء حراك الرابع عشر من جانفي ليخيب آمالها بعد أن ظهرت على الساحة قوافل من المشككين في مكاسبها والمعطلين لتقدمها، الذين وصل بهم الأمر إلى درجة المطالبة بالتراجع عن مجلة الأحوال الشخصية التي تعتبر إنجازا إصلاحيا رائدا في العالمين العربي والإسلامي.
هل يفعلها هشام المشيشي ؟
أثر المناخ العام، الملطخ بالكثير من المواقف والتحركات الرجعية، على الساحة السياسية فتقلص دور المرأة في المواقع القيادية داخل الأحزاب فعبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر هي حاليا المرأة الوحيدة التي تقود حزبا سياسيا من بين مائتين وخمسة وعشرين حزب في بلد تحررت فيه المرأة منذ أكثر من ستة عقود كاملة، كما تعمدت الحكومات التي تشكلت بعد الرابع عشر من جانفي إقصاء المرأة والإكتفاء بتمكينها من بعض الحقائب الوزارية في مجالات إجتماعية تقليدية.
وفي ظل تواصل سياسة التهميش والإقصاء التي تتعرض لها الكفاءات النسائية تعتزم المنظمات المدافعة عنها دخول مرحلة الصراع المباشر مع القوى الذكورية المهيمنة على الساحة السياسية والمحتكرة للمناصب القيادية، للمطالبة بالقطع نهائيا مع السياسات المتبعة إلى حد الٱن وتمكين المرأة من مكانة سياسية ومواقع وزارية في حجم ما حققته من تقدم في جميع المجالات دون إستثناء، مذكرة في هذا السياق بنضالات المرأة التونسية ضد التخلف والرجعية وظلم وعسف العادات والتقاليد الغارقة في ظلمات الماضي السحيق.
يبدو حسب المعطيات المتوفرة إلى حد الآن أن رسائل الغضب النسائي قد وصلت إلى أعلى هرم السلطة وتؤكد بعض المصادر المطلعة أن الرئيس قيس سعيد والمكلف بتشكيل الحكومة هشام المشيشي متفقان على ضرورة مضاعفة عدد النساء في الحكومة المرتقبة ، وتبقى كل الإحتمالات واردة لكن الغضب النسائي لن بهدأ إلا بإعادة الإعتبار للمرأة وتمكينها من حقها المشروع في الحصول على مواقع سياسية متقدمة.
* صحفي وكاتب.
شارك رأيك