الرئيسية » قصة قصيرة : إضراب الأئمة

قصة قصيرة : إضراب الأئمة

وانتظر كبار الناس أن تحمل الشرطة على هؤلاء المعتصمين الذين أغلقوا بيوت الله وبعضهم جاؤوا بأبنائهم رافعين شعارات الصمود وقائمة من مطالبهم. أغلب كبار السنّ لا يتقبلون هذا الحياد الذي صارت تتصرف به الشرطة بعد الثورة في مواجهة التحركات السّلمية. ولا يقصدون بذلك سوى اتهام الحكومة بالضعف…

بقلم عبدالرؤوف الطويل

الأئمة.. في إضراب!!! جميعنا، كنا مستغربين، في انتظار تنفيذ نقابة الأئمة تهديداتها وتوعداتها، وقد كثرت تحركاتها من زمان، تنفذ وقفات الاحتجاج ومسيرات الغضب أما بيانات التنديد، فلم يخلُ منها أسبوع. واستغرابنا درجات. بدا في الحوارات القصيرة الجادة والساخرة بين الناس:

-نقابة الأئمة!! الأئمة شكلوا نقابة؟؟!! هذه آخر شطحات الحرية ما بعد الثورة؟ يا لعجائب هذا البلد المنكوب!! حتى رجال الله، ومن نظنهم عباد الله الصالحين انخرطوا في المطالب المادّية المالية. ويريدون “الزيادات المجزية”.

-إيه؟ وما الغريب في ذلك؟ مادام الجميع انخرطوا في حمّى النضالات المطلبية؟ رجال الشرطة وحراس الحكومة شكلوا نقابات، حتى المعطلون عن العمل يفكرون في تأسيس نقابة بلا اسم!! لم يبق في تونس إلا الجيش الوطني بلا نقابة!

-والحكومة، يضيف الآخر ضاحكا . ولكن قل لي: كيف سينفذ الأئمة إضرابهم؟؟ هل سينقطعون عن الصلاة؟!

هكذا كثرت حلقات الجدل والحوار في الإذاعات التي تبحث عن غرائب الأخبار وعجائب الأحداث لتملأ مساحة بثّ تمتدّ أربعا وعشرين ساعة، كل قناة منها تريد افتكاك المستمع في السيارة والمقهى والبيت، حوارات تتنقل فيها نفس الوجوه بين المجالس والأيام، أغلبهم خبراء اقتصاد “قلوب تركيا البيضاء” هي سبب الأزمة الاقتصادية”. وسياسيو الأحزاب التي لم تجمع في الانتخابات من المؤيدين ما يملأ باصا بعربة واحدة وهي تهدد بانهيار البلاد وتبشر بثورة تقلب النظام وتحرق الحكومة. وتجعل قادة أحزابهم زعماء منقذين.


عشية الإضراب، ردّد وزير الشؤون الدينية حرفيا بيان وزراءٍ قبله مرّوا بنفس الحال: عدَّد ما حققت وزارته من إنجازات وذكر ما يمرّ به العالم من أزمات وأشار إلى ما يعيشه الإقليم من تقلبات ثم حذّر مما يحيق بتونس من مخاطر، ويختم بالدعوة إلى التعقل والعودة إلى الحوار.

انقسم المتحاورن في الإعلام قسمين، بين أصوات خافتة ترى ذلك تحرّكا عاديا لموظفين في الدولة يطالبون مثل غيرهم ببعض الحقوق وتحسين وضعياتهم المادّية، فقد شهد البلد إضرابات لكل القطاعات، وأصوات صارخة لا ترى في ذلك إلا توظيفا للدّين في السياسة، ودفعا من حزب الإخوان الحاكم للضغط على الحكومة، وكسب معركة للاستيلاء على الدولة. وما على الوزير إلا أن يضرب بقوة ضد دواعش يريدون توظيف دور العبادة في العمل النقابي والمصالح الحزبية الضيقة.


انطلق سالم إلى المسجد وقد تأبط سجادة حسب تعليمات ما بعد الكورونة، تفاجأ بالجمع أمام المسجد يتحدّث همسا، لما تجاوزهم لا مباليا اصطدم بباب الجامع المغلق. ألم يحن وقت الصلاة بعد؟ تذكر أنه فعلا لم يسمع آذان الفجر هذا الصباح. لكن الوقت صحيح. التفت حينها إلى الزمر المتناثرة. فقال له أحدهم وقد شاهد حيرته:

-المساجد في إضراب. ألا تعلم الخبر، انظر البيان المعلق على الباب؟

سقط حنكه متعجبا لا يكاد يفهم:

-إضراااب؟

ليس وحده في حيرة. والناس بين صعوبة تقبل الموقف، وبين صعوبة مواجهة الإمام والمنظف وإمام الجمعة الذين علقوا بيان النقابة على الباب وأغلقوا الجامع من الداخل.

لا أحد يعلم من أوحى لِسالم أن يفرش سجادته مستقبلا القبلة ويصلي ركعتي الفجر. ما فتئ أن تبعه الآخرون بغير اتفاق، فلما أتمّوا قدموا العجوز “سي صلاح” إماما للصبح. قيل أنه حدث نفس الشيء في بقية المساجد، ولم يمض اليوم الأول حتى صار الطريق أمام كل جامع مُصلى وصار يؤذن للصلاة أحد الواصلين الأوائل للساحة، وقيل أنه لم تحدث مشاجرة بينهم ولا تزاحم حول إمامة وكانوا يدفعون بعضهم بعضا للإمامة دفْعَ من يتهرّب منها ويستعظم شأنها. ثم يتفرقون بعد الصلاة إلى شؤونهم بلا جلبة ولا ضوضاء.

تردد أن بعض الأئمة المضربين صلوا بجلابيبهم وعمائمهم مع المصلين خارج المسجد خلف إمام بلا عمامة ولا جبة.


نزل خبر صلاة عامة الناس خارج المسجد على الحكومة وعلمانيي الأحزاب بردا وسلاما، ورأوه درسا قاسيا لرجال الدين الذين يحلمون بعودة الإكليروس إلى سَالف سلطانهم. ودعا بعضهم الدولة إلى طردهم من وظائفهم، فلا رجال دين في الإسلام والإمامة في الصلاة واجب ديني وليست وظيفة دنيوية يؤجر عليها بالمال إذ يمكن أن يؤديها أي كان ممن حضر من المصلين ولو كان طفلا.

وأضاف آخر أن هذه الوظائف المسجدية كانت مما أبدعه النظام السابق للسّيطرة على المساجد، فكان أغلب المؤجرين مخبرين، يحملون قوائم أسماء المصلّين كل يوم إلى الشرطة، أو يلتزمون بالدعوة والدعاء للحاكم لا أكثر.

غير أن نقابة الأئمة أصدرت بيانا شديد اللهجة ثمنت فيه ثبات مناضليها على إنجاح الإضراب ونددت بالمحاولات البائسة واليائسة من الحكومة لإفشاله، وأن بينهم وبين النجاح يوم الجمعة.


انتهى يومُ الجمعة، خلافَ ما كان يتوقعه الجميع، حضر المصلون في المساجد كل حسَب الوقت المعلوم، بسط سالم سجادته ساكتا في الساحة المجانبة للمسجد حيث جلس غيره ممن سبقه إلى الجلوس. بدت الصفوف منتظمة مستقيمة بفعل السّجادات المستطيلة المتحاذية والمتباعدة حسب تعليمات وزارة الصحة. رفض الإمام فتح الجامع. وانتظر كبار الناس أن تحمل الشرطة على هؤلاء المعتصمين الذين أغلقوا بيوت الله وبعضهم جاؤوا بأبنائهم رافعين شعارات الصمود وقائمة من مطالبهم. أغلب كبار السنّ لا يتقبلون هذا الحياد الذي صارت تتصرف به الشرطة بعد الثورة في مواجهة التحركات السّلمية. ولا يقصدون بذلك سوى اتهام الحكومة بالضعف وهم يرددون: هل كان هؤلاء يجرؤون على فتح أفواههم في العهد السابق؟ غير أن الشرطة ظلت بعيدة عن محيط المساجد حيادا معلنا منها. وعجزا في نظر آخرين.

جاء أحدهم من المقهى المجاور بكرسي، وضعه أمام المصلين، ثم نظر فيهم. وقال: اليوم سيكون الخطيب أحدَكم. سي صلاح. تفضل! لكن سي صلاح يرفض بكلمة واحدة: “اعفيني.”

تقدم سي نبيل خطيبا، بدا مهيبا بشعره الأبيض تماما كالجبة التي صار يلبسها منذ أن تقاعد من مهنة التدريس.

كانت الخطبة حمدا وثناء، ودعاء. ودعوة إلى التحابب بين المؤمنين فإنما المؤمنون إخوة، ونهيا عن التنازع والخلاف. لم تدم خطبة سي نبيل أكثر من ربع ساعة رسخت معانيها في المصلين، وأتمها قبل أن يتسرب النوم إلى البعض كعادتهم أو أن تحترق ظهورهم بحرارة الشمس.

قيل إن الأمر نفسه وقع في أكثر المساجد بالبلاد. ظلت المساجد مغلقة، وموظفوها معتصمين بها، والناس يصلون خارجها.
***
خفتت أصوات المضربين، وتمادت الوزارة في تجاهلهم، وتجاهل تظاهراتهم أمام مجلس النواب، وتهديداتهم بالاستقالة أو بإضراب جوع وحشي.

أثبت الأئمة بإضرابهم عبثية وجودهم وأثبتوا أيضا أن كل إدارات الشؤون الدينية عالة على غيرها…

تصاعدت دعوات إلى إلغاء وزارة الشؤون الدينية برمتها. الدين لله والوطن للجميع.

دعا حداثيون ممن يرون أنهم يفهمون الإسلام أكثر من نبيّه والقرآن أفضل من كل مفسريه عبر التاريخ، إلى أن لا يكون المسجد أكثر من ساحة ترابية للصلوات تماما كأول مسجد أسـسه النبي…

اقترح بعضهم على الدولة هدم هذه المساجد أو تحويلها إلى متاحف فقد صارت عنوان البذخ والتبذير في الزخرفة والطلاء والفرش والكهرباء الأوْلى أن يستفيد منها فقراء المسلمين.


انتفض سالم فجر يوم الأحد من فراشه حين سمع الآذان يرتفع من المآذن، بدا له أن الحكومة أطردت الأئمة وأعادت المساجد للمصلين.

يومها، تفاجأ الناس حين وجدوا كل أبواب المساجد مشرعة على مصراعيها، والأئمة الحكوميون يستقبلونهم مهللين يرفعون شارات النصر. وتفاجؤوا أكثر حين علموا أن الوزارة لبت على غير المتوقع كل مطالبهم…

تأكد للحكومة والوزارة وطواقمها وإداراتها وأعوانها، بما لا يدع مجالا إلى الشّك أن وجودهم مرتبط بهؤلاء الذين يعملون على إفشال إضرابهم…

ونجح الأئمة لما فشلوا…

القلعة الكبرى 30/06/2020

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.