بقلم المنصف باني أستاذ باحث بالمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر
غرة جوان 1955 بتونس هو يوم “النصر” باعتبار ما احتفظت به الذاكرة الوطنية من توافد مئات الآلاف من كل أنحاء البلاد لاستقبال الزعيم وباعتباره منعرجا في تاريخ تونس سيفتح الطريق لحصول البلاد على استقلالها بعد ثماني أشهر. وتخليدا لهذا الحدث ينظم متحف معقل الزعيم يوم الأربعاء 02 جوان 2021 لقاءا فكريا و حوارا حول معاني تلك الذكرى التي تم التخلي عن احيائها رسميا منذ سنة 1987 لكنها ظلت حاضرة في المخيال العام من خلال بعض الرموز لعل من أهمها تمثال الزعيم بورقيبة وهو على جواد ذلك التمثال الذي أعيد بعد الثورة الى مكانه في وسط العاصمة.
في ذلك اليوم عاد الزعيم الحبيب بورقيبة بعد حوالي 3 سنوات ونصف نقل فيها الى عدة أماكن نفي ( من طبرقة الى الجنوب التونسي الى جزيرة جالطة في أقصى شمال البلاد التونسية الى جزيرة Groix الفرنسية) . تزامنت هذه العودة مع حصول تونس على الاستقلال الداخلي الذي تم امضاؤه يوم 3 جوان 1955 بعد مسار طويل من النضال الوطني وساهمت في تحقيقه عدة قوى وطنية من اتجاهات سياسية مختلفة ومنظمات وطنية وقيادات وطنية متعددة على مدى عقود وكان للزعيم الحبيب بورقيبة دورا كبيرا في ذلك المسار. وتوافق هذه السنة الذكرى 66 لهذا الحدث. ومسار الاستقلال الداخلي تم على مراحل . فشلت المحاولة الأولى في ديسمبر 1951 التي تمت من حكومة شنيق الثانية (1950-1952) التي دعمها الحزب الدستوري وشارك فيها المرحوم صالح بن يوسف. ثم عادت المحاولات من جديد سنة 1954 مع حكومة بيار منداس فرانس وتواصلت سنة 1955 مع حكومة أدقار فور إلى حين الحصول على الاستقلال الداخلي في 3 جوان 1955 ولذلك امتدت المفاوضات من 13 سبتمبر 1954 إلى 22 أفريل 1955. وضمن هذا السياق يندرج تاريخ 1 جوان 1955 باعتباره حلقة من الكفاح التي أجبرت الخصم على التفاوض بعد ما لا قاه من صمود في الهند الصينية وفي تونس والمغرب وهو ما جعل الحكومة الفرنسية تتوجه نحو منح تونس استقلالها الداخلي الذي أعلن عنه بيار منداس فرانس السفر في تونس يوم 31 جويلية 1954 عند لقائه محمد الأمين باي وأعضاء الحكومة التونسية بقصر قرطاج”. ونتيجة ذلك الاعلان تكونت حكومة تونسية تفاوضية في 7 أوت 1954 برئاسة الطاهر بن عمار ضمت شخصيات وطنية من بينها الهادي نويرة والمنجي سليم وانطلقت في إجراء سلسلة من اللقاءات والمفاوضات بين الجانبين التونسي والفرنسي على مراحل بباريس في 13 سبتمبر 1954. والملاحظ أن المفاوضات كانت صعبة واستغرقت قرابة 6 أشهر كاملة وتعطلت بسبب سقوط حكومة بيار منداس فرنس يوم 5 فيفري 1955 ثم استأنفت يوم 15 مارس 1955 مع الوفد التفاوضي التونسي برئاسة الوزير الأكبر الطاهر بن عمار تشكلت يوم 28 فيفري 1955 حكومة أدقار فور. وقد حصل الاتفاق المبدئي يوم 22 أفريل 1955 بعد اللقاء الشهير بين بورقيبة ورئيس الحكومة الفرنسية أدقار فور والتوصل إلى اتفاقيات اعترفت بالسيادة التونسية وبحق التونسيين في ممارسة هذه السيادة في كل ما يتعلق بالشؤون الداخلية مستثنية بذلك الأمن الخارجي والتمثيل الدبلوماسي. ونتيجة هذا الاتفاق قرر بورقيبة العودة إلى تونس يوم 30 ماي 1955 انطلاقا من العاصمة الفرنسية باريس عبر مرسيليا. وقد استقل القطار من محطة ليون (Gare de Lyon) بباريس حيث خص بحفل توديع شعبي من قبل الطلبة والعمال التونسيين ومن المغاربة المقيمين هناك ومنها إلى مرسيليا التي وصلها صباح 31 ماي حيث حظي باستقبال مماثل من قبل حشود من التونسيين والجزائريين والمغاربة كانوا في انتظاره ليستقل الباخرة ” مدينة الجزائر” في تمام منتصف النهار نحو ميناء حلق الوادي الذي وصله يوم غرة جوان 1955 وكان في استقباله حوالي نصف مليون تونسي وفق تقديرات الصحف الفرنسية، وما نلاحظه بصفة عامة الإعداد الدقيق لعودة الزعيم الحبيب بورقيبة حيث نسق القادة الدستوريون مع مختلف الجامعات الدستورية بكافة البلاد التونسية وكذلك مع المنظمات الوطنية الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد القومي للمزارعين واتحاد الصناعة والتجارة والكشافة التونسية. وكان في انتظار الزعيم في أسفل مدرج الباخرة الوزير الأكبر الطاهر بن عمار رفقة طاقم حكومته وإلى جواره الشاذلي باي ممثلا عن جلالة الباي محمد الأمين. وقد تمت تغطية الحدث من قبل مبعوثي وممثلي وكالات الأنباء والإذاعات والصحف الوطنية والأجنبية وقد سهر الحزب على وضع ترتيبات الاستقبال الرسمي للزعيم الحبيب بورقيبة برفع الزعيم على الأعناق ثم امتطائه صهوة جواد ثم استقل السيارة المكشوفة، وقد انطلق المسار من حلق الوادي نحو مقر إقامة الباي بقرطاج ومنها إلى تونس العاصمة وعبر أهم شوارع مدينة تونس وساحة البلفيدير وباب سعدون وساحة القصبة وصولا إلى ساحة معقل الزعيم مقر إقامة بورقيبة أين تولى عشية نفس اليوم استقبال الوفود من كافة أنحاء البلاد وألقى الزعيم الحبيب بورقيبة خطابا حماسيا عبّر من خلاله على أهمية ذلك اليوم في حياته وفي حياة التونسيين مركزا بالأساس على قيمة تضحيات الشعب التونسي. وفي هذا الإطار التاريخي والوطني، وبعيد عودة الزعيم الحبيب بورقيبة إلى تونس تواصلت عملية تفعيل اتفاقية الاستقلال الداخلي بصفة رسمية حيث تولى الطاهر بن عمار والمنجي سليم عن الجانب التونسي ورئيس الحكومة الفرنسية أدقار فور إمضاء اتفاقية الاستقلال الداخلي يوم الجمعة 3 جوان 1955. ولكن هناك من رفض الاستقلال الداخلي حيث عارض شق من الوطنيين هذه الاتفاقيات ففي ما اعتبر بورقيبة أن الاستقلال الداخلي يفتح الطريق إلى الاستقلال التام، رفض صالح بن يوسف الأمين العام للدستور الجديد الاتفاقيات فور عودته إلى تونس يوم 13 سبتمبر 1955 وقاد المعارضة ضد الاستقلال الداخلي معتبرا ذلك “خطوة إلى الوراء” ودعا في ذات الوقت المقاومين لمواصلة الكفاح المسلح مما أدى إلى ما يعرف بالصراع البورقيبي اليوسفي وانقسام التونسيين بين شق موال للزعيم الحبيب بورقيبة وشق موال لصالح بن يوسف الذي تم طرده من الأمانة العامة للحزب في مؤتمر صفاقس المنعقد بين 15 و19 نوفمبر 1955 وغادر على إثرها صالح بن يوسف البلاد نحو ليبيا. ورغم ذلك تواصلت المفاوضات التونسية الفرنسية إلى أن تم يوم 20 مارس 1956 إمضاء بروتوكول الاستقلال التام بين أعضاء الحكومة التونسية التفاوضية الثانية برئاسة الطاهر بن عمار ورئيس الحكومة الفرنسية كريستيان بينو. لكل ذلك سيبقى يوم غرة جوان حاضرا في الذاكرة الشعبية رغم تخلي السلطة التونسية غداة 7 نوفمبر 1987 عن اعتباره يوما وطنيا كما كان الأمر في عهد الرئيس بورقيبة كما أنه سيبقى حاضرا باعتباره احدى مظاهر العمل السياسيي في تونس القائم على المرونة و المرحلية مع الثبات على تحقيق طموح الشعب التونسي الدائم في الحرية والتقدم والعدالة والاستقلال.
شارك رأيك