في وقت يتجه فيه العمل في الأوساط العلميّة ومختبرات السياسات العمومية المحليّة على مستوى العالم سواء المتقدم أو النامي إلى إيلاء موضوع التصميم المديني مكانة كبيرة بهدف حفظ الحقوق المدنية والثقافية و تكريس القيم والمبادئ التي تجعل المدينة فضاء ديمقراطيا مواطنيّا و تتخلص المدن من هاجس المحلية الذي ظل يكبلها لاسيما في عالمنا العربي بدافع إيديولوجي عقيم ورؤى ضيقة… ما زال مفهوم المدينة في تونس وبعد الانتخابات البلدية لعام 2018 لم يتطور بالقدر الذي يجسم القيم المذكورة على الأرض وينسجم مع التطورات الفكرية والتقنية في علاقة بمفهوم المدينة…
بقلم رياض البوسليمي *
الواقع أنه لم تتبنى المجالس البلدية بعد تصميما مدينيا مبتكرا يجمع بين الخصوصية والكونية ويمنح المدن التونسية أفقا أوسع للتطور و التجدد…
لا يزال هذا الملف محفوظا و مؤجلا في أغلب مدن البلاد ولم تتجرأ أي بلدية على فتحه أو العمل على وضع أسسه الأولى على الأقل… ربما لخطورته وأهميته وصعوبة تطبيقه في ذات الوقت، فتناول موضوع التخطيط الحضري والتصميم المديني يتطلب فتح حوار جدي ونقاش عميق مع كل الفاعلين المحليين وتشريك الخبراء والمثقفين والفنانين في التصميم والمهندسين المعماريين والمثقفين ونواب المدن في مجلس الشعب… لكي تكون مخرجات الحوار قاعدة صلبة للانطلاق في وضع تصميم يستجيب لكل التطلعات ويكون منسجما مع التوجهات الوطنية في الحوكمة والمقاربة التشاركية واللامركزية ويراعي التعدديّة الثقافية ويحمل مشروعا تنمويا قريبا وبعيد المدى… ويجسد سياسة مدينية محليّة مستمدة من إرادة الشعب ووفية لمكتسبات الماضي وللذاكرة الجماعية المشتركة… وتلعب فيها الثقافة دورا طلائعيا من خلال التواصل الثقافي بين المثقفين والمبدعين في شتى المجالات والجمهور و تحتضنه فضاءات ثقافية وفنية مفتوحة للجميع …
تكريس روح المدنية والمواطنة و التشاركية
وبالتالي يتم تكريس روح المدنية والمواطنة كما يجب أن يكون في فضاء مديني متعدد قادر على استيعاب أفكار كل المواطنين على اختلافاتهم الإيديولوجية و ميولاتهم الفكرية وانتماءاتهم الاجتماعية…
في المقابل، لا يستثمر المجتمع المدني في هذه المشاريع ويغلب على ما يقوم به حاليا مساعدة البلديات في تنفيذ برامج متعلقة بالمقاربة التشاركية كما جاءت بها مجلة الجماعات المحليّة وتحسيس المواطن بضرورة المشاركة في الانتخابات وفي الشأن العام بصفة عامة وفي أقصى الحالات مراقبة عمل البلديات…
هذه البرامج وإن كانت هامّة وتخدم المسار الانتقالي الديمقراطي إلاّ أنها لا تعتبر بديلا عن مشروع التصميم الذي يجب وضعه في مقدمة سلم الأولويات من أجل بناء مدينة تشبهنا على إختلافنا و تنوعنا… علاوة على أنّها ستخفي دور المجتمع المدني الحقيقي وتحسره فقط في مساعدة ودعم البلديات أو المجالس البلدية في تنفيذ برامجها ومشاريعها المصادق عليها من قبل المستشارين البلديين وهنا لا بدا من الإشارة إلى أن تركيبة هذه المجالس في أغلبها غير متوازنة سياسيا بالإضافة إلى افتقارها في الغالب إلى مثقفين وسياسيين ذوي مستوى علمي وثقافي متميّز وحاملين لمشاريع سياسية وثقافية وطنية واضحة المعالم وهو ما يجعل بعض المشاريع ومنها المشروع الذي ذكرنا لا تحظى بالدعم والجدية في التعامل معها وبالتالي لن تكون أبدا في مقدمة ولا في درجة ثانية من اهتماماتهم وسيتم إعطاء الأولوية المطلقة للمشاريع الموضوعة على جدول أعمال المجلس البلدي والتي تدعمها الأغلبية داخله…
إعادة التفكير في السياسات العمومية على المستوى المحلي
و بناء على ما تقدم يبقى فضاء المدينة على حاله ولن تفلح بعض المشاريع المقدمة من قبل هذا المجتمع المدني الناشئ والمسقطة كالاستثمار في مشاريع “المدن الذكية” أو ما شابهها… في تغيير واقع الحال.
إن القراءة العميقة والتحليل المقارن يفرض على المجالس البلدية المنتخبة منذ ما يناهز الثلاث سنوات أوّلا والمجتمع المدني ثانيا العمل على إعادة التفكير في السياسات العمومية على المستوى المحلي وخاصة في مفهوم المدينة ومدى تطابقها ومواكبتها للمسار الديمقراطي والسياسي المنبثق عن الثورة… بالتركيز على التراث المشترك المادي وغير المادي بين المواطنين أنفسهم وبينهم وبين من اختلف عنهم ثقافيا وفكريا واجتماعيا… حتى نضمن التعايش مع الاختلاف والتواصل المبني على الاحترام المتبادل والولاء الرمزي للمدينة… وبالتالي نصل إلى مفهوم جديد للمدينة كما أرادته المدنيّة وأراده الشعب الذي طالب بتغيير المنظومة القديمة…
* ناشط مستقل.
شارك رأيك