ثقافتا الارتياح و الانزياح هما مفهومان يسِمان جميع شعوب العالم، فهناك من الشعوب التي تجد في الرتابة و الاستكانة راحة و قدرا، و هناك من الشعوب التي تُراهن على الانزياح والتغيير و تجدهما سبيلا للتقدّم و التحرّر. فأيّ، إذن، من الثقافتين ينضوي تحتهما الشعب التونسي؟ أم أنّه يأخذ من عقلية الارتياح الكثير و يُجَرُّ غصبًا إلى عقلية الانزياح و ثقافته؟
* بقلم ميلاد خالدي
ثقافة الارتياح…
من المتعارف عليه أنّ من بين سمات الشعب التونسي أنه شعب منفتح، عاطفي ومحافظ، باختلاف الدرجات طبعا، منفتح بمعنى أنّه سريعا ما يقبل الآخر و ينصهر فيه، عاطفي بمعنى أنّه متقلّب وسريع الانفعال و يحتكم إلى المشاعر أكثر من القرائن و العقل، محافظ بمعنى أنّه تقليدي و ماضوي ملتزم بنمط حياة مُعيّن و لا يريد له بدلا، رغم بؤسه. مجتمع محافظ يعود إلى الماضي، لا يُفرّط في قائده بسهولة حتى و إن قهره و نكّل بجيبه و معيشه اليومي.
في كتابه “الشخصية التونسية: محاولة في فهم الشخصية العربية” يذهب الكاتب و الباحث التونسي منصف ونّاس إلى أنّ الشخصية التونسية شخصية غير خلاقة بمعنى، أنّها شخصية سطحية رتيبة و روتينية، بالإضافة إلى أنّها شخصية تأبى التغيير ولا تنزع إلى التجديد بصفة ثابتة و مستمرّة. فمنطقة الراحة التي يركن إليها التونسي هي منطقة الخنوع و الخضوع، فكيف له أن صَبر على العيش تحت نظام بن علي الاستبدادي أكثر من 23 سنة و يتجرّع ويلاته و ظلُّ راضيا منبطحا؟ وكيف له أن يعيش عشر سنوات منذ 2011 إلى الآن ولا يُحرّك ساكنا رغم المآسي الاقتصادية و الاجتماعية التي يعيشها.
من محاسن الأقدار أن تدخّل رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 25 جويلية و طبّق الفصل 80 من الدستور لينقذ ما يمكن إنقاذه، ليخرج البلاد من دائرة الارتياح الكاذب ويدخلها دائرة الانزياح المطلوب. فالتونسي بطبعه لا يريد الإجراءات الاستثنائية كنوع من الخروج على السائد و لا حالة الطوارئ، فهي تزعجه و تقلق راحته و هو ما يتعارض مع أسلوب حياته المُنمّط الذي ينتهجه. فهو يريد حلاًّ جذريًا في أسرع وقت حتى يعود إلى سالف عهده و تعود مياه يومه الى مجاريها، ليُتمتم في آخر النهار و يقول في سِرّه ” الله لا يغير علينا”.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ ثقافة الارتياح لدى التونسي تتجلّى من خلال كونها شخصية فُصامية غير مُتّزنة، فهي من ناحية تُريد تبدّلاً و تحُسّنا في المقدرة الشرائية و المعيشية من خلال ضخّ دماء جديدة على مستوى الحكم و الحُكّام، و من ناحية أخرى هي شخصية منسجمة مع ” واقع الفساد”، ولا تحترم القانون ولا تلتزم به، فتطبيق القانون لا يتناسب و نمط حياته الفوضوي المُتعفّن. فالقانون بالنسبة إليه يُمثّل حجر عثرة أمامه، فمُمكن أن يُفقده أصدقاءه، كما أنّه جسم غريب مُعرقل، قادر على سحب بساط الأمان من تحت رجليه المرتعشتين.
كذلك فإنّ هذه العقلية الآسنة و المتحجّرة تخشى عبور المياه الصافية والتضحية و بذل الجهد والعمل على تغيير الواقع، لا سيّما إذا اعتبرنا أنّ ذهنية العمل غير موجودة في ذهنية التونسي كقيمة إنسانية و مجتمعية، وهو ما أكّده الباحث منصف ونّاس من أنّ التونسي شخصية غير منتجة تهدر الوقت في الثرثرة والتذمّر و التأفّف.
هذه المعايب، التي لا غُبار عليها، تجرّنا حتميا إلى ثقافة الارتياح و اللامبالاة التي تعتري سلوك هذا القرطاجنّي المعاصر، ثقافة مُهترئة تُؤبّد منطقة الجمود و تُغلق نافذة التغيير و التجديد و الإصلاح. فالشعوب التي لا تتعلّم من أخطائها و من عثراتها، مثل الشعب التونسي، هي شعوب لا تستحق أن توجد في مدارات القرن الواحد و العشرين، فالأجدر بها أن تعيش في غياهب العصر الحجري الأوّل أو العصر الجليدي الأخير، لا غير.
ثقافة الانزياح…
هل كلّما يتخبّط التونسي في عنق الزجاجة، ويختنق في دوائر التأزّم وضيق الأفق يحتاج بالضرورة إلى Un déclic؟ هل هذا déclic أو عملية الانفراج تأتي جرّاء حاجة بيولوجية للتنفّس أم هي نتيجة تراكمية ذهنية و نفسية و تاريخية و مجتمعية و اقتصادية و ثقافية مرادها التغيير الجذري لا الحصري؟
الويل كلّ الويل أن تكون الحاجة إلى التغيير مجرّد حاجة بيولوجية، ما إن يتوفّر الأوكسجين و باقي المرافق الحياتية الأخرى حتى تنزاح وتنتفي ونعود إلى سالف عهدنا من الانسجام المصلحي و الرضى المزيّف والارتياح الواهم.
من عادة التونسي أنّه يقول “أنقذني اليوم و اقتلني غدا” يعني أنّه يطالب التغيير لكنه ذلك التغيير الحيني والآني و السطحي، ليس ذلك التغيير العميق الذي يذهب إلى سبب المشكل سواء على مستواه الشخصي أو الاجتماعي. حيث إنّ ثقافة الانزياح L’écart لم تترسّخ بعد في عقلية التونسي، و من الأجدر أن يتشرّب المصطلح الذي يعني النأي والبعد و أخذ مسافة نقدية من الأشياء و الأحداث و الأشخاص و عدم العودة إلى الوراء حتى و إن كان على حسابه.
و في كتابه ” صدمة المستقبل” يكتب المفكّر آلفين توفلر على لسان كريستوفر رايت من معهد دراسات العلم “عندما تتغيّر الأشياء من حولك، فإن تغيّرا مُوازيا يحدث بداخلك”. بلغة أوضح فإنّ من البديهي أن تُخلق لدى التونسي أرضية مرنة لقبول التغيير و التأقلم معه من فترة إلى أخرى و إن لم يحدث ذلك التغيير فعليه أن يبحث عنه من أجل صنع واقع متحرّر جديد ومغاير دون مقاومة، فالمقاومة في هذا الصدد تعني الانسجام و الارتياح مع منظومة ساقطة و خائرة.
من أدبيات الانزياح أنّه يمنع الرجوع إلى الوراء وأنّه لا يفسح المجال للفراغ كما تعيشه نسبة هامّة من الشعب التونسي، فهي تنأى بنفسها عن شيء ما، عن سلوك ما لتجد نفسها في دوامة الإشاعة و الثرثرة و المهاترات. فالانزياح الذي يأتي نتيجة حالة ذعر و خوف لا يأتي أكله و حتى إن أتى فثماره غير ناضجة وفي غير فصلها، فيمكن لمشاعر الخوف أن تخلق انزياحا حين يكون المواطن مُهدّدا في قوته و حياته و أسلوب عيشه فتكون خشيته في خسارة ما يملك، فيضطرّ إلى الولوج إلى باب التغيير مُجبرا قصد تخفيف الوطأة فقط و ليس عن اقتناع و خيار و قرار. فثقافة الانزياح الحقيقية ترافقها بالضرورة تُرسانة قويّة قوامها تطبيق القانون و التعلّم من الأخطاء و الوعي المتحرّك.
البليد المُتبلّد من يقول أنّ الانخراط في ثقافة الانزياح لا تُمثله ولا تعني له شيئا و أنّه غير جاهز ذهنيا لقبولها بتعلّة أنّه تعوّد على الارتياح و تناغم معه. فالعلاج بالصدمة لا يجب أن يكون هو القاعدة، فالتدرّب على التغيير والوعي بالتجديد هما الأصل. فالبقاء لسنوات طوال دون أيّ بادرة للتغيير تُعتبر تعدّ صارخ للكرامة الإنسانية وتهديد مزدوج للسلم الاجتماعي.
* كاتب و مترجم.
شارك رأيك