فهم منظومة الحكم بمفهومها العريض و بجوانبها المؤسساتية و غيرها و دور الدولة بدواليبها و دور الأجسام الوسيطة و دور المنظومة الاقتصادية و المالية و دور الشبكات الزبونية بامتداداتها الجهوية و الأمنية و الفئوية و العائلية يقتضي قدرا كبيرا من العقلانية لتفكيكها و إبطال تأثيراتها المضرة بالصالح العام. هذه العقلانية غائبة في الخطاب الشعبوي للرئيس قيس سعيد.
بقلم فوزي بن عبد الرحمان *
أعطى الرئيس قيس سعيد لنفسه مهمة القضاء على المنظومة القائمة. و كل كلامه و أفعاله تصبو لهدف واحد هو القضاء على المنظومة وهي بالنسبة إليه مرادفة للفساد، هكذا يصفها و هكذا يفهمها.
كلمة منظومة (سيستام) تعني مركز القرار في البلاد و هذا المركز له جزء ظاهر (و هو النظام السياسي بالمعني الواسع) و له جانب خفي لا يقل تأثيرا في مركز القرار. ذ
فساد، مؤامرات، مناورات، خيانة و غرف مظلمة…
قيس سعيد لم يخرج في 17 ديسمبر 2010 و لا قبلها ضد الاستبداد و الفساد المستشري و لم يخرج في 14 جانفي 2011 و لا بعدها إلا ككفاءة دستورية جعلت منه أخبار الثامنة شخصية وطنية. وهو ليس له كتابات أو تنظيرات أو أقوال على المنظومة إلا بعد انتخابه رئيسا للدولة عام 2019 و خاصة بعد تفجيره للنظام السياسي في عيد الجمهورية الفائت يوم 25 جويلية 2021.
هناك كلمات مفاتيح نفهم من خلالها مدى فهم الرئيس للمنظومة : فساد، مؤامرات، مناورات، خيانة و غرف مظلمة. الكلمات المفاتيح الغائبة في خطابه هي التي تدلنا على فهم الرئيس الضيق جدا لمفهوم المنظومة و ربما الفهم الخاطئ المبني أساسا على تقارير أمنية بدون عقل سياسي يؤطرها.
فهم منظومة الحكم بمفهومها العريض و بجوانبها المؤسساتية و غيرها و دور الدولة بدواليبها و دور الأجسام الوسيطة و دور المنظومة الاقتصادية و المالية و دور الشبكات الزبونية بامتداداتها الجهوية و الأمنية و الفئوية و العائلية يقتضي قدرا كبيرا من العقلانية لتفكيكها و إبطال تأثيراتها المضرة بالصالح العام.
هذه العقلانية مفقودة في خطاب الرئيس (وهذا مفهوم إلى حد ما) و مفقودة في أفعاله و قراراته خاصة و هذا هو مكمن الخطأ الذي سيحكم عليه بالفشل عاجلا أم آجلا مع تبعات لا يقدر خطرها إلى اليوم.
فضاء الشعبوية غير مستقر
اختار الرئيس أن يتحرك في الفضاء الشعبوي مع نوع كبير من العدمية : فساد الأجسام الوسيطة كلها، فساد رجال الأعمال، فساد النخب. خطاب مقترن بشحنة حقد طبقي (غريبة جدا) تجد صداها عند شرائح عريضة من مجتمع مفقرة و مهمشة و مجهلة.
فضاء الشعبوية فضاء يمس المشاعر و الغرائز البدائية عند جمهور واسع و لكنه فضاء متقلب و غير مستقر و رأينا ذلك في العشر سنوات الماضية و لن يكون مواليا إلا بتغذيته بكل أنواع القرابين بصفة منتظمة، و هذا سيجر المجتمع إلى مزيد من التقسيم و التشنج و العنف – لا سمح الله -.
الفضاء العام لا يمكن ان يكون شعبويا عدميا، الدعوة إلى عقلنته هي مسألة أمن قومي بالأساس قبل أن تكون مسألة سياسية.
نحن على أبواب خطر داهم ليس في اهتمامات الفضاء الشعبوي و هو الإفلاس المالي و الاقتصادي و خطر داهم أكبر و هو الإفلاس الحضاري و الذي خطونا خطوات جدية باتجاهه.
* وزير سابق للتكوين و التشغيل.
شارك رأيك