إنّ أفضل هدية قدمها قيس سعيد مؤقتا للساحة التونسية هي طابعه الاشكالي بالمعنى الإيجابي للكلمة هنا، أي بالمعنى المحفز على البحث الفكري والعمل السياسي، ولكن الذي لا يمنع من إمكان ان يتحول إلى مشكل حقيقي في ظروف ما قادمة.
بقلم مصطفي العلوي
يتمثّل الطابع الاشكالي الإيجابي في عدم انطباق أي مسطرة فكرية سياسية كلاسيكية عليه مما جعله يسند من قبل تيارات كانت دائما متوازية أو متصارعة و يتهم بكل النعوت من تهمة أقصى اليمين المحافظ الإسلاموي الداعشي والتحريري (نسبة إلى حزب التحرير) إلى تهمة أقصى اليسار الراديكالي المجالسي لأنه يجمع في تصوراته العامة شذرات من هنا وهناك في توليفة سطحية نعم ولكن، جديدة تماما في الساحة التونسية.
ثالوث الوطنية والاجتماعية والديمقراطية
سياسيا، قيس سعيد يمارس توليفة جديدة تماما بين ثالوث الوطنية والاجتماعية والديمقراطية بحيث لا يمكن أن يسنده أعداء هذا الثالوث الصريحون ولا أصدقاؤه التقليديون في نفس الوقت لأنه أقرب إلى خوض تجربة سياسية جديدة و خاصة لا تنفع معها التقييمات الكلاسيكية الليبرالية والاسلاموية والقومية واليسارية، وهو بذلك يحرج الجميع ليس بسبب تفوق نظري بل، إلى حد الآن، بسبب تفوق عملي على الأرض يبقى مع ذلك مفتوحا على كل الاحتمالات ليس فحسب بسبب خصائص مشروعه الذاتية بل كذلك حسب ما ستفرضه موازين القوى الداخلية والخارجية.
يبدو لي أن تجربة قيس سعيد تدخل ضمن إطار جنين موجة ‘ديكولونيالية’ عربية جديدة دون نظرية ديكولونيالية بمعانيها المدرسية الفلسفية كما توجد في بلدان أخرى، أو هي بمعنى التوسيري ما ‘فلسفة ديكولونيالية عفوية’ وعملية يمكنها، إضافة إلى تحفيزها على التفكير كما يحصل بسببها من نقاش مثلا حول الديمقراطية التمثيلية و الشعبوية وغيرهما، أن تفتح مجالات للتجريب السياسي الإيجابية. ولكن بسبب تلك العفوية يمكن، في ظروف ذاتية وموضوعية، أن تؤدي أيضا إلى التخريب وتفشل معها هذه المحاولة الوطنية الإصلاحية.
إنّ ‘قناعتي’ المؤقّتة، ولكن المبنية على ما يفوق الحدس قليلا و لكن التي لا تدعي امتلاك الحقيقة التاريخية، أن مرحلة حكمه إن طالت وحافظت على تماسكها يمكنها أن تساعد على إعادة مراجعة كل البرامج الكلاسيكية دون أن يكون ذلك ناتجا عن قوة قيس سعيد وأنصاره النظرية بل عن قصور تلك البرامج نفسها ووصولها إلى مرحلة الشيخوخة التاريخية. ولكن الخوف كل الخوف أن يؤدي ذلك الانتصار العملي إلى إفراغ الحياة من كل عمق فكري وتعويضه بتوهم امتلاك جديد للحقيقة بطريقة سطحية تشبه بمعنى ما، في سطحيتها، وليس ذهنيتها أو في تفاصيلها على عكس ما يردّده الكثيرون، ‘الحقيقة القذافية’ وتضيف إليها نوعا من النقاوة الأخلاقية التي يعزّزها الآن مسار مقاومة الفساد و الإصلاحات الدستوريّة.
مغامرة وطنية وسط رداءة سياسية سائدة
لهذه الأسباب أعتقد اننا أمام تجربة تشكل نوعا من المغامرة الوطنية وسط ما ساد من رداءة سياسية لم تعد مقبولة بسبب ما اقترفته السلطة وما عجزت عنه المعارضة من كل النخب التقليدية .ولكن لنفس الأسباب أيضا، نحن أمام ما يشبه المقامرة التي لا أحد يضمن مآلاتها المستقبلية. وعلى رأي أحد الأصدقاء (ع.ب.ش) منذ أيّام، يبدو لي أن أفضل حل وقتي الآن هو الرهان على ثالوث ”المساندة و المراقبة و النقد” للمشروع بالتوازي مع الدفع باتجاه تطوير مقاربة تحرّريّة جديدة، مركّبة، تتقاطع فيها معرفيا كل إيجابيات الماضي المحلي والخارجي الكوني وتقطع إيجابا مع كل الأنساق التقليدية عسانا بذلك نكسب من التجربة العفوية مقدمات رؤية فكرية تحمي، بقطع النظر عن حسن النوايا، من احتمال تحول التجريب إلى تخريب.
إنّ هذا الموقف الشخصي من المسألة ينطلق من مقدّمات أهمّها :
– افتقاد الثقة الفكرية و السياسية والتنظيمية في كل البدائل الكلاسيكية.- افتقاد الرغبة النفسية والقناعة الفكرية والاستعداد العملي للدخول في تجربة تدّعي الجدّة ولكنها تكرّر طرق احساس وتفكير وفعل تلك البدائل الكلاسيكية.
– اعتبار البلد قد وصل الى وضعية سيئة جدّا تجعلني أطمع في / أطمح إلى المساعدة في إنجاح أية محاولة إنقاذية لا يمكن اليوم في تونس أن تكون سوى ‘وطنية إصلاحية’.
– الوعي بحدود إمكانيات البلد و إمكانيات نخبه كلّها، السياسية و الثقافية و الإدارية و العسكرية …، مقابل وطأة الوضعية الإقليمية و العالمية العولمية الحاليّة.
– القناعة الفكرية-التاريخية بأنّه، في المراحل الديمقراطية، يمكن جيّدا ‘الاقتصاد في الثوريّة’ (النّسقيّة السياسية تحديدا) وفي تكلفة نزاعاتها الحدّيّة، ومع ذلك التقدّم في تحقيق إنجازات إصلاحية جذرية تعتبر بمقياس الإمكانيات وبمقياس التاريخ العام إنجازات تقدّمية بدليل كون بلدان ملكية دستورية شمال أوروبية تطوّرت بشكل إصلاحي تدريجي سياسيا هي الآن أفضل ديمقراطية (حسب المقياس المركّب لمؤشرات التنمية ) من بلدان الثورات الديمقراطية الجذرية الكبرى ( بريطانيا و الولايات المتحدة و فرنسا).
– ترجيح عقلي كون فعل المراهنة على هذه الطريقة الآن في تونس هو وحده ما يمكن أن يدفع الى عقد “تسوية تاريخية” من قبل “كتلة تاريخية” وطنية تقدّمية بعيدا عمّا أعتقده أصبح من ‘الثورجية’.
– وترجيح نفسي-اجتماعي-سياسي كون المراهنة على هذه الطريقة الآن في تونس هو وحده ما يمكن أن يدفع جماهير شعبية عريضة الى مساندة تلك ‘الكتلة التاريخية’ التي تعقد ‘التسوية التاريخية’ بالنظر إلى خصوصية ما استشعرها في الشعب التونسي (يبدو أنها هي التي أنتجب وأنجحت بحدود ما البورقيبية) والتي لا تستجيب فحسب إلى طبقات متراكمة من الخصائص النفسية/العقلية التاريخية التونسية وإنّما أيضا إلى رافعة التاريخ التونسي الحديثة و المعاصرة الأساسية : الطبقات الوسطى التونسية. وإني بذلك أرى فرصة ما أمام تونس.
من أجل ‘كتلة تاريخية’ تعقد ‘تسوية تاريخية’
لكنّ هذه الفرصة مشروطة بأمرين : عقد تلك التسوية وخلق تلك الكتلة و تجنّب المساومة ولكن في نفس الوقت تجنّب الانعزالية. واختيار منهجية براغماتية في أهم المسائل المحورية :
1- التعامل مع كل المحاور الإقليمية والدولية مع تحسين شروط السيادة الوطنية دون تبعية و دون ‘عنترية وطنجية’.
2- الحفاظ على الطابع الاجتماعي للدولة مع إجراء الإصلاحات الضرورية على الوظيفة العمومية و المؤسسات العمومية وتشجيع الاقتصاد التضامني بعيدا عن سياسة النيوليبيرالية وعن الوعود الشعبوية .
3- والحفاظ على مسار الانتقال الديمقراطي مع إجراء إصلاحات دستورية وقانونية بعيدا عن كلّ من التسلّط و من الشكلانية….
ختاما، أعترف بأنّ وجهة نظري هنا “إصلاحية تقدّمية” -إن شئتم – وأنّني الآن أفضّل أن تكون نخبة بلدي إصلاحيّة ناجعة وناجحة ما أمكن (كي تكون واقعية و ذكيّة في ظروف اشتغالها الداخلية و الخارجية الحاليّة التي تجعل من حلمها بالجمهورية الوطنية الاجتماعية الديمقراطية قريبا من المغامرة -بل و المقامرة )، على أن تواصل احتراف الثرثرة الثوريّة “القاعديّة’ الجديدة دون عتاد شعبي يدوم ودون عدّة فكريّة عميقة تتجاوز الأخطوطة الدستورية السطحية، أو الثرثرة الثورية الكلاسيكيية برؤى فشلت/ أفشلت وتجاوزتها الباراديغمات المعرفية والأحداث السياسية فوصلت إلى انسدادات تاريخية، و…”التاريخ سيكون أعلم، وهو من أمام القصد”!.
شارك رأيك