“السيستام طايح’، تلك العبارة الفجّة التي لا نفتأ نسمعها كلما قصدنا إدارة تونسية، هي مجاز مُؤلم للمنظومة الرثّة والحاكمة منذ عقود طويلة، إنّه بلغة التونسي ‘المورال طايح’ و المعنويات هابطة، جرّاء خيبة الأمل من الطبقة السياسية التي عليها أن تفقه أنّنا نعيش في زوبعة من الرّموز و عاصفة من الكنايات التي تُغشي و تهلك و أكثر الرّموز شيوعا هي أكثرها فتكا.
بقلم ميلاد خالدي *
يقول الكاتب الفلسطيني حُسين البرغوثي “لكن لا توجد فوضى، بل نظام آخر للأشياء”، هذه المقولة تجرّنا إلى القول أنّ كلّ نظام أو سيستام في بلد ما ماهو إلاّ إعادة توزيع لنظام ما و ما الفوضى إلاّ وجه آخر من وجوه النظام القائم. حيث كثيرا ما يكون النظام في عمقه فوضى استوعبها المجتمع و اعتبرها أمرا طبيعيا وبديهيا و لا يدري أنّ النظام لا يُقام من منطلق البديهي و الأمر الواقع، وأحيانا كُلّما كان كعب السيستام عاليا، لا يُلبّي تطلّعات المواطن كأنّ سقوطه أقوى و الخروج منه أسرع.
السيستام… ‘طايح’: مجاز مُؤلم لمنظومة رثّة
يعود لفظ system إلى اللغة الإغريقية sustêma والذي يعني الوحدة المُنسجمة و المتكاملة من الأشياء أو من الأشخاص، كما أنّ اللفظ مشتقّ من الفعل sun histéma آخر غير حرفي من يؤسّس و يبني شبكة من الأعراف و القوانين و المناهج. و كلّ من يؤسّس عليه أن يكون قويّا متماسكا مُنظّما و المنظومة عليها أن تكون قويّة و متماسكة و مستمرّة كي يتسنّى لها الوقوف في وجه العُطب الفنّي و عُطل الدولة العميق بالأساس.
السيستام ‘طايح’ هو تلك العبارة الفجّة التي لا نفتأ نسمعها منذ عهد بن علي إلى اليوم، فكُلّما قصدنا إدارة من الإدارات التونسية إلاّ ووجدنا أنّ السيستام ‘طايح’ أو في أسفل درجات أدائه. و ما السيستام إلاّ تلك المنظمومة التقنية و السياسية و القِيمية التي هي بدورها هابطة ومُنحدرة، و كلّ شيء ‘يطيح’ هو ساقط أو مشرف على الهلاك و تائه في الأرض. إذا كان الموظف يتفوّه بها على نحو ميكانيكي غليظ فهذا لا يمنع من كونها ترزح و نجعلنا نرزح تحت طائلة الرمزية، ذلك الرمز القاتل أو العنيف أو جبروت الرّمز حسب بعض المفكّرين.
السيستام ‘طايح’ هو مجاز مُؤلم للمنظومة الرثّة والحاكمة منذ عقود طويلة، إنّه بلغة التونسي ‘المورال طايح’ و المعنويات هابطة، جرّاء خيبة الأمل من الطبقة السياسية التي عليها أن تفقه أنّنا نعيش في زوبعة من الرّموز و عاصفة من الكنايات التي تُغشي و تهلك و أكثر الرّموز شيوعا هي أكثرها فتكا.
الوجه الآخر للخور المستديم
السيستام ‘طايح’ هو المنظومة المتداعية التي تُسلّط على المواطن البسيط فيذهب في ظنّ هذا الأخير أنّ الإشكال يكمنُ في عطب فني عابر أو شبكة الانترنيت تترنّح قليلا كي تسترجع أنفاسها في غضون دقائق أو ساعات. وهكذا في كل مرّة يقع ترديد نفس الخطاب و استقباله بأدوات بدائية ساذجة. الحقيقة أنّ العُطب الفنّي العابر والمتواصل الذي يطرأ على السيستام هو الوجه الآخر للخور المستديم للنُظم التعليمية و المهنية التي لا أحد يتجرّأ و يتطرّق إليها إلاّ في محاولات ترقيعية بائسة.
إذا عُدنا إلى تعريف السيستام بكونه وحدة قويّة دائمة عناصرها منسجمة و متماسكة فحريّ بنا أن نذهب بعيدا نحو السيستام الذهني الذي يتحكّم في الكلّ، تلك العقلية السائدة المتحكّمة في دواليب الدولة و المجتمع. العقلية التي تقول أنّ سياسة التواصل و الاستمرارية هي آفّة هذا الشعب و ترى في سياسة التقطع و التفكك و البطء و التسويف الدَيدنُ و المصير.
تدفّق سعة الانترنيت في الإدارات على نحو جميل متواصل يُربك العقلية و يُفسد لذّة الراحة، الوزير الذي يتقلّد منصبه على إثر تحوير أو غيره يقطع مع ممّن جاء قبله و يبني جدرانا من الإسمنت المُسلّح حتى لا يُنفّذ مشروعا أو فكرةً أو اقتراحا لمن سبقه. السيستام في مرارة الأمر ليس ‘طايح’ وإنّما مُتعنّت لا يتواصل ولا يريد أن يتواصل معك كمواطن كامل صاحب حقوق قبل الواجبات، هو السيستام الذي لا يريد أن يبني على ما سبقه ولا يعترف بتكنولوجيا fibre optique التواصلية و الديناميكية الحيّة التي تُؤمن بالامتداد الاتصالي الشاسع الذي لا ينقطع ولا ‘يطيح’.
من خارج السيستام…
كثيرا ما سمعنا إبّان انتخابات 2019 صعود طبقة حاكمة جديدة من خارج السيستام أو صعود تيّار من خارج المنظومة، من بينها قيس سعيد، لا تعترف بالمنظومة التقليدية القائمة من أحزاب و تشكّلات ومناهج اقتصادية و سياسية و ثقافية و غيرها. أن تكون من خارج السيستام هو ليس بالضرورة أن تكون ضدّ السيستام ففي أغلب الأحيان هي عملية إيهامية للمواطن فإن تكون خارج السيستام هو أن تكون خارج منظومة الدولة و الأعراف و النواميس وطرق العمل و هذا في حدّ ذاته لم يحدث و من الصعب حدوثه.
يقول أحد المفكّرين الأمريكيين: “نرغب في النظام حتى نحجُب النظام كي نشعر بالارتياح بكوننا متواجدين هناك على حدّ السواء في النظام وفي النظام المُؤامراتي الذي يقبع خلف النظام.” بمعنى من يدّعي أنّه خارج النظام أو المنظومة أو السيستام فهو ذاك الذي يقبع في المنتصف، يرغب في دحض المنظومة القائمة ليس من أجل تأسيس منظومة جديدة أو بديلة و إنّما يعيدُ استهلاك المنظومة القديمة لكن على نحو مختلف فيه الكثير من الاجترارية. و إذا شعر بأنّه غير ناجز أو تمّ نقده و القدح في أدائه يلتجأ إلى سياسة التخوين و تفعيل زرّ الخطاب المؤامراتي الذي يحتمي به ويختبأ خلفه حيث يُوفّر له دعامة شعبية لا بأس بها.
السيستام ‘طايح’ أو من خارج السيستام’ هما تقريبا وجهان لعملة و احدة، أو بعبارة أوضح هي علاقة السبب بالنتيجة فالمنظومة التي تسقط بسبب من الأسباب مآلها الخروج من المنظومة فليس كلّ ما هو هاوٍ أو ساقط هو جدير بأن يظلّ داخل المنظومة لأنّه سيكون عبئا عليها و لاسيّما حين تكون المنظومة مُنتجة و مُتجاوبة و سابقة عصرها. فطالما كان العاملون في السيستام ‘الطايح’ غير مُنتجين وغير مُتجاوبين و متخلّفين حضاريا فإنّ هذا السيستام سيفرزُ أفرادا خارج السيستام لا ينتمون إلى شيء ولا يمثّلون شيئا، فهم يمثّلون إلاّ أنفسهم المعطوبة فحسب. من الأجدى العمل على الذهنية البشرية والاشتغال على العقلية المُجتمعية الرمزية وليس على النُظم الميكانيكية المنبثقة عنها.
لئن كان السيستام مواضعة اجتماعية مُّتّفق عليها مسبقا لينتقل في أغلب الأحيان إلى أمر مُجحف في حقّ الشعب و الدولة على حدّ السّواء، لذا فشيوعه و علوّه لا يشفع له الأحقية و الريادة، إذ كثيرا ما يُتّهم بأنّ كعبُه لا يكُفُّ عن الإنغراس في هيكل القيمة و الضمير.
* كاتب.
شارك رأيك