الرئيس قيس سعيد تجاوز كل الخطوط الحمراء حين أسقط ذكرى استقلال تونس و واجب الاحتفال القومي به من أجندته المختلف عليها. إذ ليس من حقه أن يتجاهل دماء الشهداء الذين قضوا نحبهم و تضحيات المناضلين الذين نالوا ما نالوا من تعذيب وحشي في مقارعة الاستعمار و ليس من حقه أيضا تحت أي عنوان أن يسخر من هذا الاحتفال أو من مفهوم الاستقلال أو يشكك فيه.
بقلم أحمد الحباسي *
ليعذرنا البعض و مع كل تقديرنا لكن محبّتهم للرئيس قيس سعيّد لن تثنينا عن نقده و عن تصعيد النبرة و عن قول الحقيقة أو على الأقل نقل بعض المواقف التي بات إغفالها أو إنكارها أو القفز عليها بمثابة الجريمة الكاملة. لعل أول الحقائق أن الرئيس قد تجاوز كل الخطوط الحمراء حين أسقط ذكرى الاستقلال و واجب الاحتفال القومي به من أجندته المختلف عليها.
بمنتهى الوضوح و بكامل المسؤولية ليس من حق الرئيس أن يتجاهل دماء الشهداء الذين قضوا نحبهم و تضحيات المناضلين الذين نالوا ما نالوا من تعذيب وحشي في مقارعة الاستعمار و ليس من حق الرئيس تحت أي عنوان أن يسخر من هذا الاحتفال أو من مفهوم الاستقلال أو يشكك فيه أو يتصرف بمثل هذه اللامبالاة نحو حدث مقدس لا يعرف قيمته إلا من ضحوا من أجله أو لا يزالون يناضلون حتى لا يأتي من يتهاون به لأسباب مجهولة و أقل ما يقال فيها أنها مثيرة للاستغراب.
الرئيس استيقظ بعد مرور ذكرى الاحتفال بالاستقلال بساعات
لا يمكن لسيادة الرئيس أن يقفز مهما أرتكب من سوء تقدير و محاولة تهميش على هذه الذكرى أو أن ينزع من أذهان التونسيين أن تونس دولة مستقلة و دولة عضو في الأمم المتحدة و رايتها ترفرف في كل المنتديات و المحافل الدولية كما لا يمكن لسيادته حتى و لئن استيقظ بعد مرور ذكرى الاحتفال بالاستقلال بساعات، و يظهر أنه قد راحت عليه “نومة “، أن يسقط من ذاكرة التونسيين أنه قد اقترف جرما لا يختلف عن جرائم حكومة الترويكا طيلة عشر سنوات من الحكم حين فعلت كل شيء لمحو هذه الذكرى من أذهان التونسيين و من كتب التاريخ و أوراق ذكريات الحركة الوطنية.
ربما لم ينتبه الرئيس لحد الآن و للأسف أنه ما كان ليشغل ذلك المقعد و قبله مقاعد الدراسة و التدريس لولا تضحيات الشهداء و نضال الأحرار و أن انتخابه لم يكن ممكنا لولا هذا الاستقلال الذي لا يعترف به أصلا أو هكذا يظهر من تصرفه.
لماذا لا يؤمن سيادة الرئيس بالاستقلال أو بأن تونس دولة مستقلة ذات سيادة؟
هذا السؤال يحتاج إجابة واضحة و لكن الرئيس يتهرب من قولها علنا لغاية في نفس يعقوب في هذا المجال لا يختلف موقف أو رؤية الرئيس عن موقف و رؤية حركة النهضة و لعله من المفارقات المضحكة أن الرئيس لا يحتفل بذكرى الاستقلال و يراه من آخر اهتماماته بدليل التوقيت المتأخر لتلك الخطبة العصماء الفقيرة للمغزى و المكررة بصورة تدعو إلى الملل و الضيق التي تفضل بها سيادته عندما كان أغلب التونسيين يغطون في نوم عميق من آخر ساعات الليل في حين أعلنت حركة النهضة و من والاها من بقايا الخيانات السياسية و الأخلاقية النفير العام للاحتفاء بهذه المناسبة في مشهد سوريالي انتهازي لا نراه إلا عند أيتام حسن البنا و سيد قطب و يوسف القرضاوى.
لعل هذا “السهو” الرئاسي المتعمد و المتكرر يدخل في نفس السياق البيزنطي الذي تطرحه حركة الإخوان و جماعة صالح بن يوسف و بعض المغتربين الذهنيين من أمثال سيف الدين مخلوف و جوهر بن مبارك للتشكيك فى هذا الاستقلال بل فى كل الإرث البورقيبي.
نحن إذن إزاء ظاهرة ذهنية مركبة لا ترى في الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة إلا عميلا للاستعمار و على هذا الأساس لا تريد الاعتراف بكل مكتسبات دولة الاستقلال و أهمها هذا الاستقلال الناجز الذي يبحث الرئيس و حركة النهضة عن تشويهه بكل طرق و في كل المناسبات.
مشكلة الرئيس قيس سعيد أنه أصبح رئيسا بالصدفة
لا أحد صدق وقوف سيادة الرئيس أمام قبر الزعيم الراحل السنة الماضية لقراءة الفاتحة و لا أحد يصدق اليوم أن سيادته يسعى لتدعيم استقلال تونس و مناعتها و المتابع الحصيف لكل سيرة الرجل و ما “أنجزه” منذ توليه منصبه يدرك بمنتهى السهولة أن من انتخبوا سيادته قد أتوا بشخص مرتبك الطباع غريب المنطق بعيد كل البعد عن كل خصال السياسيين المحنكين.
مشكلة الرئيس قيس سعيد أنه أصبح رئيسا بالصدفة فى حين أن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة قد أصبح رئيسا بحكم النضال ضد الاستعمار و بين شخص لا يملك أي برنامج سياسي أو اقتصادي صالح حتى لإدارة معتمدية نائية و شخصية عالمية تملك مشروعا حداثيا تنويريا هناك مساحة سنوات ضوئية.
من يريد مواصلة التسويق لما يصرون على أنه “برنامج” الرئيس مثل هذا الكرونيكور الرعواني رياض جراد لا يريدون الاقتناع أن الاستقلال يمثل بالنسبة لأغلب التونسيين أمرا مقدسا و أن تغافل الرئيس عن إعطاء هذا الحدث قيمته الرسمية هو خطيئة من الكبائر السياسية.
فى كل الأحوال لا يمثل الرئيس قيس سعيد إلا نفسه في هذا الموقف الرديء و لا يمكن للبعض أن يحاولوا تبييض هذا التقصير باستعمال بعض أقراص الأسبرين اللفظية و لذلك لا بد اليوم من تنبيه الرئيس و دفعه للاعتذار للشهداء و لكل التونسيين الذين يدعي أنه رئيسهم.
إن محاولة السيد الرئيس إلى دخول مناطق خطرة مثل حقل الألغام سيرتد عليه سريعا و ما نعاينه من إحباط و تذمر متصاعد يؤكد مرة أخرى أن الرئيس قد فقد الخيط الرابط بينه و بين ذهنية الشعب الذي يسوسه و أن حاشيته لا تقدم له النصح المطلوب مما يجعله يتعثر و يتلعثم و يفقد ما تبقى من منسوب الثقة في شخصه و هو ما تؤكده نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة.
* كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك