العنوان الكامل للمقال التالي هو “حمّه الهمّامي وقيس سعيّد والمسألة الدّينية : قول مختصر في نقد بعض النقد الشيوعي للعلاقة بين الدّين و الدّولة…”
بقلم مصطفى العلوي
نشر السّيّد حمّه الهمّامي مقالا صدر بجريدة “المغرب” بتاريخ 28 أفريل 2022 يحمل عنوان “بعد الاستيلاء على الفضاء السياسي : قيس سعيد يحاول الاستيلاء على الفضاء الديني/الروحي ويعمق الأزمة السياسية” قدّم له بسرد ما يراه منذ 25 جويلية 2021 خطوات انقلابية في السياسة (تنفيذا وتشريعا وقضاء وصحافة) وصولا إلى القول بأنّ قيس سعيد وجّه يوم 1 أفريل 2022 بمناسبة توزيع جوائز على حفظة القرآن رسالة مفادها أنّه “وليّ أمرهم”، بما يعني عمليّا أنّه صاحب “السلطة الدينية/الروحية” أيضا، الذي “يهدي النّاس إلى الدين الصحيح” و”يرشدهم” إلى ما لهم وما عليهم” إلى الدرجة التي وصفه فيها بالشعبوي “المعادي للجمهورية والديمقراطية بعنوان المشروعية الشعبية التي يمنحها لنفسه، يعمل من أجل أن ينتصب شيئا فشيئا خليفة أو سلطانا، محتكرا إدارة شؤون المجتمع الدينية والدنيوية”.
الخلط بين النزعة الجمهورية المحافظة و النزعة الفردية الخليفية/السلطانية
ولن نناقش هنا سوى مسألة العلاقة بالدّين من زاوية نقد النقد الشيوعي الذي يوجهه حمّه الهمّامي لقيس سعيّد بعد توضيح مختصر للأمر التالي :
1- قيس سعيّد وخصوصية تصوره الجمهوري المحافظ في المسألة الدينية : يعتبر حمّه الهمّامي أنّ لقيس سعيد مشروع استبداد شمولي يحوله شيئا فشيئا الى خليفة أو سلطان يحتكر إدارة شؤون المجتمع الدينية والدنيوية مما ينفي عنه الصفة الجمهوريّة والديمقراطية تماما ويجعله يمثل ميلا الى “الحكم الفردي (..)، الدكتاتوري، الشمولي، الذي يهدف إلى التحكّم في كافة مجالات حياة الناس, وهو حكم لا علاقة له بالجمهورية في أبسط معانيها التاريخية ولا حتى بالصيغة المشوّهة والمحدودة التي عرفتها تونس.
وهذه النقطة هي التي يجب الانتباه إليها في المقام الأول لأنها الهدف الأساسي من خطاب قيس سعيد، بينما خوضه في علاقة الدين بالدولة، وفي المذهب المقاصدي ومسألة المساواة والعدل وغيرها ما هو إلّا غطاء لتحقيق ذلك الهدف.
وحسب رأيي فإنّ حمه الهمّامي يخلط هنا بين النزعة الجمهورية المحافظة و النزعة الفردية الخليفية/السلطانية التي سجن نفسه فيها منذ بداية المقال حتى نهايته عبر استهلاله المقال باقتباس من عبد الرحمان الكواكبي وختمه به، الاقتباس القائل “يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به الاستبداد” بحيث بدا وكأنّه لا يناقش رئيسا تونسيا في 2022 بل حاكما عربيا إسلاميا تقليديا من القرون الماضية في عملية إسقاط تاريخية لا معنى لها تماما رغم وجاهة محتوى الاقتباس من حيث المبدأ .
إن قيس سعيّد متديّن محافظ، نعم، ولكنّه جمهوري على طريقته الخاصّة بما في ذلك في مسألة العلاقة بين الدين و الدولة. وهو هنا، فعلا، يرفض إعلان دين للدولة (ويختلف في ذلك حتى مع بورقيبة) ولكنه يستلهم من الشريعة في إصدار القانون بشكل يجعله يمثل قراءة سياسية خاصة في تونس كان قد عبّر عنها بوضوح منذ سنوات في محاضرة ألقاها تحت عنوان “الإسلام دينها”.
إنّ مواقفه من المساواة في الميراث و الإعدام وغيرها تندرج فعلا في إطار نزعته الدينية المحافظة ولكنها لا تجعل منه لا خليفة ولا سلطانا إلا إذا أسقطنا، وهنا الأمر الثاني، مفاعيل المرحلة الاستثنائية الحالية على مشروع قيس سعيّد بكامله، وهو خطأ منهجي يجب تجنّبه لأن التاريخ يعطينا أمثلة عديدة عن لجوء زعماء سياسيين لسياسات خاصة في مراحل انتقالية سرعان ما تنتهي باستقرار الحكم، وهذا ما يميز ما يسمى المراحل الانتقالية عادة.
إنّ قيس سعيد جمهوري رئاسي/قاعدي سياسيا و مسلم محافظ دينيّا صاحب موقف خاصّ من مسألة إعلان تبني الدولة للدين (بالرفض) مع قبول اللجوء إلى الشريعة في الدستور وفي القانون. وإنّ اعتباره صاحب ميل فردي خليفي/سلطاني شمولي، الخ. هو اعتبار، إلى الآن، سجالي ‘مسحوب من الشّعر’ – كما تقول العبارة الفرنسية – منهجيّا، وذو طابع تحريضي أكثر منه تحليليّ سياسيّا لأنه يسقط في استسهال استعمال وإسقاط مفاهيم ومصطلحات لا تصلح لتحليل الوضع الراهن إلا من باب ‘المصادرة على المطلوب’ تقريبا.
وهذا مع الأسف تقليد عند حمه الهمامي منذ الثمانينات عندما كان يصف الجميع بالفاشية مثلا…
خطأ عدم التفريق بين العلمانية عموما واللائكية تحديدا
2- حمّه الهمّامي وفصل الديني عن الدنيوي (و الدين عن الدّولة) : ينطلق حمّه الهمّامي من تصوّر يساري لائكوي (لاييسيست) عن العلاقة بين الديني والدنيوي (وضمنه عن العلاقة بين الدين و الدولة) وهو يقيّم مشروع قيس سعيّد ثم يسقط ذلك التصوّر على العلمانية بصورة عامّة وهذا خطأ يساري شيوعي كلاسيكي يهمّنا تفنيده بالإضافة إلى استثمار المفكّر نصر حامد أبي زيد في المقال لغرض ليس ‘زيديّا’.
من ناحية أولى، قال حمّه الهمّامي: “إن اعتبار سعيد ‘الدولة ذاتا معنوية’ ولا يمكن أن يكون لها دين، لا علاقة له بالمفاهيم الحديثة للدولة وخاصة الدولة العلمانية القائمة على مبدأ المواطنة وضمان حرية العقيدة من خلال الفصل بين الديني والدنيوي، وبين الديني من جهة والدولة، الجهاز السياسي الأول في المجتمع من جهة ثانية.”
وفي هذا القول خطأ عدم التفريق بين العلمانية عموما واللائكية تحديدا. فالعلمانية (أو العلمانيات) لا تعني بالضرورة ‘الفصل بين الديني و الدنيوي وبين الديني من جهة والدولة من جهة ثانية’ بدليل وجود تجارب علمانية مختلفة يمكن تصنيفها إلى نماذج يوجد من بينها النموذج اللائكي الفرنسي مثلا.
إن إنقلترا وإسبانيا وبلجيكا وألمانيا والسويد و النورويج والولايات المتحدة وكندا كلها بلدان علمانية ، كل بطريقته، ولكنها ليست كلها مثل فرنسا ومثل تركيا .ومن هذه الدول الأولى من له دين رسمي أو مذهب رسمي وكنيسة رسمية ومنها من يكون ملكه/ملكته رئيس الكنيسة الرسمية أصلا، وهي مع ذلك دول علمانية وديمقراطية بطريقتها الخاصة الناتجة عن تجربتها الخاصة مع وجود نقاط تشابه بينها كلّها ولكن لا يوجد فيها لا فصل بين الديني والدنيوي و ،ضمنه، بين الدين و الدولة.
الاستشهاد الخاطىء بنصر حامد أبي زيد
من ناحية ثانية، نعتبر أن الاستشهاد بنصر حامد أبي زيد ومقاله المعنون “الفزع من العلمانية: فصل الدين عن الدولة” عبر إبراز كونه، ربّما، أول من عبر عن فكرة رفض أن يكون للدولة دين بالصيغة التي يكرّرها قيس سعيد، هو’ كلام حق يراد به باطل’ لأن نصر حامد أبي زيد لا يدعو إلى ‘لائكية’ على الطريقة الشيوعيّة كما يدعو إلى ذلك حمّه الهمّامي عكس ما يوهم هو به.
وهنا لا بدّ من توضيح أن نصر حامد أبي زيد كتب في الفقرة التي اقتبسها حمه الهمامي نفسه أنّ “الدّولة ممثّلة في النظام السياسي مسؤولة عن المجتمع بكل أطيافه بما فيها الأديان…” بما يعني أنّها تعترف بكل الأديان و المذاهب دون أن تعلن تبني دين (أو مذهب) خاصّ بها، وهذا تصوّر ‘علماني ديمقراطي تقدّمي’ فعلا ولكنه عكس التصوّر الشيوعي عن الدولة العلمانية تماما اذ الدّولة في الشيوعية ‘معادية لكل الأديان’ وليست ‘مسؤولة عن كل الأديان’.
لقد كتب لينين منذ بداياته أن مسألة فصل الدين عن الدولة هي مطلب بورجوازي ديمقراطي لا يجب الاكتفاء به رغم إيجابيته التاريخية . وأوضح بعد الوصول إلى الحكم في وثيقة بعنوان ‘من مشروع برنامج الحزب الشيوعي الروسي (البلشفي) – فقرة البرنامج المتعلقة بالموقف تجاه الدين’ إن “سياسة الحزب الشيوعي الروسي بالنسبة للدين هي أن لا يكتفي بإصدار مرسوم يقضي بفصل الكنيسة عن الدولة و المدرسة عن الكنيسة، أي، أن يكتفي بإجراءات وعد بها الديمقراطيون البورجوازيون… إنّ الحزب يناضل في سبيل أن يحطّم كلّيّا الروابط بين الطبقات المستغلّة (بكسر الغين) وتنظيم الدعاية الدينية، وأيضا في سبيل أن يحرّر فعليّا الشغيلة من الأوهام الدينية، منظما الدعاية الأكثر اتساعا ضد الدّين ونشر المعرفة العلمية على نطاق واسع…” (نصوص حول الموقف من الدين،دار الطليعة1972، ص.141)
إن الموقف الشيوعي من الدين ليس اذن مثل الموقف العلماني الديمقراطي التقدّمي عند نصر حامد أبي زيد مثلا. انه ليس حتى مثل الموقف اللائكي على الطريقة الفرنسية لأنه يوصل إلى الدولة الإلحادية تماما. وهذا ما مارسه الاتحاد السوفياتي رغم اكتفاء دساتيره بالفصل بين الدولة و الكنيسة والكنيسة والمدرسة، وهو نفسه كان سياسة ألبانيا ‘الديمقراطية الشعبية’ التي كانت تعتبر إلى وقت قريب ملهمة حزب العمال في تونس برفض النزعات الاسلاموية و الدستورية و الشعبوية وبالمرور الى ‘الديمقراطية الشعبية’.
إنّ الفصل بين المؤسسة الدينية و الدولة (وبين المؤسسة الدينية و المدرسة) هو بالنسبة للشيوعي مجرّد مطلب ديمقراطي بورجوازي يجب تجاوزه عندما تسنح الفرصة السياسية نحو دولة ليست مسؤولة عن كل الأديان بل معادية لها كلّها باعتبارها أصنافا من الأفيون”.
وهنا ننهي الفقرة بنقطة تركناها حتى الآن : العلاقة بين الدنيوي والديني.هنالك في الحقيقة خلط كبير بين ثنائي الديني /الدنيوي العام وثنائي المؤسسة الدينية /المؤسسة السياسية (و التعليمية) الخاصّ بحيث تقع المماثلة (العلمانية ذات الخلفية المسيحية) بين نوعين مختلفين من العلاقات يؤدّي الى اعتبار العلمنة تمسح كل ما هو دنيوي ويحشر الدين في السماء لا غير بحيث يجب، كما يقال، أن يبقى علاقة عمودية خاصة بين الإنسان والله فحسب.
إن هذه الثنائية تتبنى منظوريا (باراديغميّا) موقعة الدين وكائناته ‘في السماء’ في حين تموقع الإنسان في الأرض، وكأن الأمر لا يتعلّق بتديّن البشر. وإن هذه الثنائية خطيرة جدا على العلمنة إذ تحوّلها إلى رؤية إلى العالم ستكون حتما في تناقض مع كل وعي ديني للعالم مما يجعله هدفا لها بوصفه رؤية يعتقد أنها مناقضة للعلمنة حتما. وهنا تتحول العلمنة إلى أيديولوجيا شمولية دنيوية هي الأخرى مقابل الأيديولوجيا الشمولية للدين السياسي تحديدا لأنّها سوف تمنع على المواطنين تبني رؤى مختلفة للعالم بشرط التعايش الديمقراطي.
وإن هذا هو فعلا ما تنزلق نحوه الشيوعية بتحويلها الدولة ذات الحزب (المادي الجدلي و التاريخي الملحد) الواحد إلى دولة على شاكلته: دولة إلحاديّة وليس دولة علمانية اشتراكية ديمقراطية تقدّمية.
بين نزعة قيس سعيد المحافظة ونزعته الجمهورية
3- متفرّقات مختصرة : في المقال، إضافة الى مسألة العلاقة بين الشريعة و التشريع، إشارات إلى مسائل من نوع القراءة المقاصدية و الإعدام و المساواة في الميراث وغيرها . وإن كان قيس سعيّد يبدو فعلا محافظا فيها فإنّ حمة الهمّامي ليس المؤهّل للدفاع عن القراءة ‘العلمانية الديمقراطية التقدمية’ لبعضها على الأقلّ وذلك للأسباب التالية:
– من يرفض أي استفادة من الشريعة في التشريع يعتقد ضمنا أن الدين ليس جزء من الثقافة الاجتماعية التي يمكن الاستئناس بها في صياغة القوانين الدنيوية مهما احتوت الأديان (و التي، مفارقة ، تعتبر عند الملحد مجرد إنتاج ثقافي بشري) من مبادئ قد تكون إيجابية عبر تأويلات علمانية ديمقراطية تقدّمية.
– من يطالب بفصل الدين عن السياسة ضمن الفصل بين الديني و الدنيوي يفترض، مبدئيّا، أن يعتبر القراءة المقاصدية للإسلام مسألة دينية داخلية خاصة بالمؤمنين هي في أحسن الحالات اجتهادات بورجوازية ديمقراطية صغيره ولا يمكن أن تكون اجتهادات لائكية و/أو شيوعية عند من يعتبر كامل الدين أفيونا حتى وإن كان دينا مقاصديّا. ولقد كان نقد ماركس لفيورباخ ونقد لينين لتولستوي وحتى غوركي يندرج ضمن هذا المنحى تقريبا.
– من يؤمن بالثورة المسلحة ودكتاتورية البروليتاريا هو آخر من يتحدّث عن منع عقوبة الإعدام التي هي حسب رأيه تخريجة حقوقية بورجوازية لإضفاء نزعة إنسانوية على الرأسمالية لا غير.
– ومن يفكر استراتيجيا في إلغاء الملكية الخاصة عليه أن لا يخفي عن غيره أن المساواة في الميراث هي في أحسن الحالات حسب رأيه مطلب بورجوازي ديمقراطي يخدم النساء ولكن سيقع تجاوزه هو والميراث نفسه من أصله ضمن اطار تجاوز الملكية الخاصة.
هنالك نقد ونقد لقيس سعيّد
عوضا عن الخاتمة : هنالك نقد ونقد لقيس سعيّد أو لغيره أو لأي موضوع كان. وإن كانت إجراءات قيس سعيد الاستثنائية فردانية فعلى الناقد تمييز ذلك بدقة عن النزعات الخليفية أو السلطانية أو الفاشية أو الدكتاتورية و البحث مثلا عن علاقتها بالتسلطية (الأوتوريتاريسم) احتراما للتمييز بين المفاهيم و المصطلحات الدارجة في العلوم السياسية على الأقلّ و عدم الانسياق سجاليا بهدف التحريض الذي يمكن تفهّمه سياسيا عند المعارض البسيط ولكن ليس عند المعارض المثقف.
وإن كان قيس سعيد محافظا في جوانب من تصوراته فيجب التفريق بين محافظته ونزعته الجمهورية مثلا. فليس كل محافظ معاديا للجمهورية و الديمقراطية و قد يكون معاديا لبعض أشكالها لا أكثر و لا أقلّ. و سواء تعلق الأمر بالسلطوية أو بالمحافظة، لا بدّ للناقد من الوعي بحركة التاريخ الواقعية الحاصلة حتى لا يصادر باسم التشاؤم أو التفاؤل اللذين يبقيان من حقه كما من حق غيره عندما لا تكون الظواهر قد نضجت أو اكتملت في اتجاه سلبي أو ايجابي بعد. إن الحذر مطلوب هنا منهجيا في التحاليل الفكرية (التي يبقى فيها جانب من الحدس الذي قد يشبه الحلم أو الكابوس) وموقفيا في الممارسة السياسية ( التي يبقى فيها جانب من الرهان الذي قد يشبه المغامرة أو المقامرة). ولكن، ومع الأسف، يبدو أن بعض التحاليل العقائدية الماركسية التقليدية لا تعترف بهذا بسبب اعتبار نفسها – بذهنية وضعية تقليدية – علما من نوع خاص لا يأتيه الباطل من الجهات الستّ ومن الأزمنة الثلاثة، تحاليل هي بلغة كارل بوبر، ‘غير قابلة للدحض’ أبدا عند أصحابها !
شارك رأيك