بقلم فرحات عثمان
لا شك أن ما يميّز هذا الزمن هو المغالاة في الماديات، إذ هي مفرطة في شكل رأسمالية متوحشة؛ وهي في ذلك تماما مثل إفراط الروحانيات في صفة هذا التدين الشعائري المتزمت الذي ينقض كل ما في الدين من قيم نبيلة.
وليس ذلك غريبا، بل لا مناص منه في الحقبة الزمنية التي أظلتنا، أي ما بعد الحداثة، وليست هي إلا المزج بين التقانة بما فيها من إفراط مادي وعودة قوية للقديم التليد، على رأسه الروحاني بما فيه من غلو. لذا، لا يكون الخروج من هذا المأزق إلا بإيجاد المعادلة الفضلى بين المادية والروحانيات بدون أي شطط.
التوحش المادي والديني :
نحن نعاين بتونس على خير وجه مدى توحش المادية في شكلها الرأسمالي الذي يميّز النظام الاقتصادي للحزبين الكبيرين الحاكمين، خاصة الإسلامي منهما، الشيء الذي مكّنه من الحصول على دعم زعيم الرأسمالية الأكبر وفرضه على الساحة السياسية التونسية مع الانقلاب الشعبي أو الثورة التونسية في تجربة سياسية جديدة حتمتها أزمة الليبيرالية العالمية.
فالليبيرالية الجديدة لم يعد لها مناص من مواصلة فتح أسواق جديدة للحفاظ على أرباحها وقد أصبحت صعبة المنال في أسواقها المعهودة نظرا لعقلنة النظام الرأسمالي بها. لذلك نراها تسعى حثيثا بتونس لجعل بلدنا سوقا للتجارة بدون قيود. ورغم أنها تؤسس ذلك على منظومة قانونية وضوابط أخلاقية، فهي لا تعتمد في ذلك إلا القالب الشكلي الذي لا يعدو أن يكون مجرد شعارات جوفاء.
لهذا، كان من المتحتم عليها استعمال الورقة الدينية بتوظيف ما يمتاز به الحزب الإسلامي التونسي من أيديلوجية اقتصادية ليبيرالية لا ضوابط لها؛ وقد علمنا منذ ماكس فيبر العلاقة الحميمة التي تربط بين الرأسمالية والأخلاقية الدينية البروتستانتية. مع العلم أن الإسلام الرسمي الحالي، ومنه خاصة المتزمت طبعا كالوهابية، ليس إسلاما صحيحا إذ كله إسرائيليات، ما يجعله شبيه البروتستانتية.
وما دام البرنامج الاقتصادي للحزب الإسلامي بتونس يعتمد على نظرة شعائرية محافظة وحريات سياسية وحقوق اجتماعية منعدمة، فهو بالنسبة لليبيرالية الجديدة الوسيلة الأفضل لإحكام قبضتها على البلاد، وبالتالي لضمان الربح التجاري الأوفر، ولو كان على حساب الأخلاق والقيم.
طبعا، هذا لا يقلق أهل التزمت الديني ما دامت قراءتهم للإسلام سلفية، لا يعنيهم في الدين إلا الحصول أو الحفاظ على الحكم والعمل باطنيا على أسلمة البلاد حسب تطبيق همجي للدين ينسف صرحه من الأساس بجعله ظلاميا، فاقدا كل ما فيه من تنوير مكّنه من أي يكون الحضارة العالمية التي علمنا.
مادية معقلنة وثقافة روحانية :
كيف الخروج من هذا المأزق ما دام مصير البلاد التونسية هو في البقاء داخل المنظومة الاقتصادية والسياسية الغربية، بل وهيمنتها؟ هذا لا يكون إلا بالدعوة جديا لرأسمالية معقلنة، أي نبذ كل توحش مادي، وذلك بالتأكيد على ضرورة تغيير المنوال السياسي والأيديولوجي والأخلاقي الحالي القائم على خور فتح الحدود أمام السلع وغلقها أمام خالق الثروات، أي الإنسان.
فلا بد من رفع الحواجز أمام حرية التنقل للتونسي الذي برهن عن نضجه خاصة وأن الآلية لذلك متوفرة وهي تتمثل في تغيير التأشيرة الحالية المخالفة للقانون الدولي وسيادة البلاد إلى تأشيرة مرور تسلم مجانا للمواطنين التونسيين ولمدة صالحة سنة على الأقل مع حرية الدخول والخروج.
هذه أول خطوة لا بد من الاتيان بها، وهي من شأنها إحداث ثورة عقلية في الفكر المادي الغربي مع ما في ذلك من تداعيات على بلدنا. أما الخطوة الثانية لإحداث ثورة مماثلة في الفكر الديني السلفي، فهي تتثمل في رفع كل الكوابل التي تمنع فهم الدين أولا وقبل كل شيء كثقافة لا كشعائر، إذ الإسلام ليس دينا فقط، بل هو دنيا أيضا.
إن الدين في الإسلام مجاله الحياة الخاصة، لا دخل فيها لأحد، لا للفقيه بالدين ولا لأهل السياسة من خلال القوانين الوضعية؛ ذلك لأن العلاقة مباشرة بين الله وعبده، بخلاف ما عهدناه في اليهودية والمسيحية؛ فلا كهانة ولا كنيسة في الإسلام.
ثم نحن نعلم أن الإسلام دين يسر لا عسر، وأنه يحترم الحرية الخصوصوية إلى حد قبول العصيان ما دام ذلك يتم في حرمة الحياة الخصوصية وبالتستر؛ فإلى متى نريد الدين عوجا أخذا بالإسرائيليات؟
لا بد إذن من المطالبة بإبطال كل القوانين المخلة بهذا المبدأ الهام في الإسلام وهي تدّعي باطلا المرجعية الإسلامية؛ بذلك نخلق معادلة سوية بين روحانيات إسلامية هي أولا وقبل كل شيء ثقافة إناسية، ويكون ذلك ضرورة متناغما مع مادية معقلنة تعيد للإنسان قيمته، فلا تهضم حقه بإسقاطه تحت قيمة البضاعة التجارية !
شارك رأيك