كلما أسافر يستيقظ في أعماقي شجن وحزن شفيف عن تونس، عن بلدي، وعن تقهقرها وتراجعها بعد عزّها. وأجدني أحدّث نفسي مع من سأقتسم سُخطي عن المتسبّبين فيما نحن فيه. من أشباه السياسيين والمتحدثين والخبراء المزعومين ومسؤولي الصدفة المغرورين.
بقلم العقيد محسن بن عيسى
لا زالت تونس رغم تجربة العشرية الماضية وانشغالها بموروث هذه المرحلة من الملفات الحارقة تنتهج طريق التعايش وتتطلع إلى مزيد من التقدم والاستقرار. تجتمع الأراء على ضرورة أن تتركز الاهتمامات على الحفاظ على الوحدة الوطنية واستعادة نسق التنمية ومجد البلاد وتقديم صورة إيجابية لها، صورة ليست مُشابة بالتهويل الذي تعوزه الحقيقة ولا يلتقي مع الواقع.
التقدم في المدنية واجهة حضارية
تستطيع كل دولة أن تقرر الالتزامات التي تريد أن ترتبط بها في تكريس المدنية أي التقدم والرقي و الاستثمار في الواجهة الحضارية. أسئلة موازية تتبادر إلى الذهن على هذا المستوى: هل التطوّر هو المسؤول عن طبيعة الإنسان؟ أم الإنسان هو سيّد هذا التطوّر؟ وهل جغرافية الأرض وطبيعتها هي التي تُحدّد دور الإنسان الذي يسكنها؟ أم الإنسان صاحب الحضارة والتاريخ هو الذي يُطوّع الطبيعة إلى ما يريد؟
الإجابة صادفتني في دولة عربية زرتها أخيرا.. دولة غنية بثرواتها الطبيعية وتتقدم بخطى حثيثة منذ بداية الخمسينات من القرن الماضي.
الأناقة والكياسة تلوحان في كل ركن وزاوية في مرافق مطارها الدولي. لا صوت يعلو على صوت الموسيقى الهادئة في هذا الإنجاز وعلى الطراز الحديث. أعرف المكان ولكن المشهد يُغريني كل مرة بالتعرف عليه أكثر والتفكير فيه. هناك مسحة من الجمال والإتّساق لا تَطغى على الجانب العملي. جنسيات مختلفة تتحرك وتشتغل مُلتمسة راحة المسافر، والنظام والنظافة هما القانون الذي يحكم الأصوات والتجهيزات والمعدات في الثبات والحركة.
بحثت حولي وأنا أغادر هذه الواجهة الحضارية الراقية علّني أجد رث ثياب أو متصنع عاهة، أو سلفي بجلباب وحذاء رياضي، أو متشرد نائم في حديقة عمومية، أو متسول في الطريق العام أو عند أضواء الطرقات.. فلم أعثر لهم على أثر. من أين لهذا البلد كل هذا الإعتداد؟
الصعود من الأدوار السفلية
كلما أسافر يستيقظ في أعماقي شجن وحزن شفيف عن تونس، عن بلدي، وعن تقهقرها وتراجعها بعد عزّها. وأجدني أحدّث نفسي مع من سأقتسم سُخطي عن المتسبّبين فيما نحن فيه. من أشباه السياسيين والمتحدثين والخبراء المزعومين ومسؤولي الصدفة المغرورين.
عندما نسافر ننظر إلى واقعنا بصورة مختلفة، نتأمل حقيقتنا المُرّة عن كثب، نفكك الأمور بواقعية ونرجعها الى الأصول لنستنتج أننا بحاجة إلى الصعود ولا شيء غير الصعود. فلقد نزلنا مع رياح الخريف العربي الى القاع وتأملنا ما يقبع في الأدوار السفلية من شرور وسيّئات أعمال. لم تكن الثورة سوى بعض الخيالات والأوهام والتنقل بين كل ما لا يُسمن الأبدان ولا يُثري الأذهان.
لقد تعدّدت إنجازات غيرنا هنا وهناك فيما صارت مخاوفنا متعددة على كل المستويات. عوّدنا أنفسنا على الطمأنينة الزائفة، والبحث عن أخبار الآخرين والتفتيش عن أحوالهم ووضعهم في منزلة أقلّ منا. الحياة تحتاج إلى التقليل من وطأة الغرور، وأنه من الضروري ألاّ نعمد إليه، فقد يأخذنا إلى سياقات غريبة يرفضها العقل والمنطق.
الحقائق التي لا لبس فيها
من الحقائق التي لا لبس فيها، أننا كنا سباقين في بناء الإنسان ولم نكن أثرياء، فالثروة ليست العنصر الرئيسي لتحقيق التقدم، واليابان أول دول آسيا التي حققت قفزات هائلة وبارزة على الصعيد العالمي وليست دولة غنية، بل دولة تعمل على حسن استغلال العنصر البشري لديها.
إنّ الصورة الحقيقية للإنسان التونسي من حيث درجة تعليمه وثقافته وأدائه الاقتصادي ونوعية حياته وعلاقاته المتبادلة هو محصلة شكلت تنوعا فكريا لدينا. تنوعا هو بمثابة اللغز الكبير، اللغز الذي سمح للجميع بمسايرة الأمور والتحرك إلى الأمام، مهما كانت الظروف ومهما كانت التغيرات. هذا هو صمّام الأمان الذي جعل الدولة قائمة رغم سقوط النظام والاختراق سنة 2011، وواجه عتوّ أمواج العبث والفوضى والعربدة الجماعية.
لا تستطيع الأقوال اليوم مهما بلغ شأنها أن تنوب عن الأفعال في إدارة البلاد. وعلى خلاف ما يقال، فلقد أنشات تجربة الحكم لدينا منذ الاستقلال رؤية وجيهة في بعض السياسات بدأت مع الدولة الفتية وتواصلت فيما بعد 1987 ولا تزال في جوانبها سارية المفعول الى يومنا هذا. لم ترتق الظروف التاريخية والسياسية اللاحقة إلى مستوى تلك الرؤية لتواصل البناء في أفقها، بل تخلت عنها في بعض الجوانب عندما تبنت الثورجة كرؤية بديلة عن السياسة في أصولها.
لم تفتقد تونس سابقا جوهر الحضارة ولا يجب أن نفقدها اليوم فهو معنى الحياة القائم على التفاؤل في التصور وعلى الأخلاق والسلوك. كثيرة هي الأمور يجب إصلاحها وتداركها عاجلا على مستوى الفردي والمؤسساتي والأولوية للأجهزة والمؤسسات والمنشآت التي تمثل الواجهة الحضارية للبلاد وتعكس تاريخها وترفع من اسمها وسمعتها بين دول المنطقة والدول العربية والعالمية.
ضابط متقاعد من سلك الحرس الوطني.
شارك رأيك