عندما نتأمل البرنامج الذي اعد للدورة السادسة للسلسلة العالمية لفن الطهي التي ستتحتضنها بلادنا من 20 إلى 24 أفريل 2017 تحت إشراف الديوان الوطني للسياحة، ندرك بوضوح أبعاد هذه التظاهرة من حيث تأثيراتها المهنية و السياحية و الثقافية بالخصوص.
و اختيار مدينة سوسة و مدينة قرطاج لاحتضان فعاليات هذه الدورة يحمل في طياته أبعادا تاريخية و حضارية وثقافية و إنسانية عميقة ، هي انعكاس لما رسمته الحصارات المتعاقبة على البلاد من إرث حضاري و تاريخي و علمي و ثقافي متعدد و متنوع.
فمدينة سوسة تعد القلب النابض لجهة الساحل التونسي عامة. وهذا الاختيار هو بمثابة التذكير بأن سوسة إنما هي ذلك القطب السياحي الكبير الذي استهدف منذ سنتين لضربة إرهابية اعتقد منفذوها أنها ستكون القاضية على كل رواج عالمي لهذه المنطقة الخلابة.
وهو التذكير ايضا بان جوهرة الساحل – كما يحلو للبعض تسميتها – كانت و ما تزال و ستظل كذلك، إلى أن يرث الله الأرض و من عليها، رمزا للأصالة و التفتح و التسامح و الإخاء و منارة للعلم و المعرفة و الاجتهاد البناء بعيدا عن كل أشكال التعصب و الجهل و الانغلاق و التشدد و التطرف. فهي الفضاء الواسع الذي يحلو فيه العيش لأبنائها و لكل الوافدين عليها من كافة اصقاع الدنيا و من كل الجنسيات حتى ينعموا بما حباها الله به من خيرات الطبيعة و ما يتمتع به سكانها من خصال كرم الضيافة و حسن القبول و بشاشة المحيا.
أما الاختيار على مدينة فرطاج فهو الآخر يدخل في سياق هذا المد التاريخي العميق و ما تميزت به من تسامح و تداخل و تمازج بين الأديان السماوية يشهد على ذلك المعلم التاريخي المقام على مرتفعات بيرصة في ضاحية قرطاج و نعني بذلك كاتيدرائية قرطاج التي اصطلح على تسميتها ب”اكروبوليوم”.
فمن المعلوم أن السلسلة العالمية لفن الطهي ظهرت في باريس سنة 1950 و لكنها تحيل إلى الخطوات الأولى في نشأة هذا التنظيم أي إلى سنة 1248 تحت حكم الملك الفرنسي لويس التاسع. و من المعلوم أيضا أن قرطاج العريقة ضمت في جنباتها كاتيدرائية القديس لويس التي أقيمت في نهاية القرن التاسع عشر تخليدا لذكرى وفاة الملك لويس التاسع. و هذا الأخير الذي توفي في الأرض التونسية تعود إليه المبادرات الأولى في نكوين أولى المجموعات المهنية المختصة في فن الطهي.
و للتذكير نقول بأن باي تونس حسين الثاني منح بتاريخ 8 أوت 1830 – قبل انتصاب الحماية الفرنسية على الأراضي التونسية – ترخيصا للمقيم العام الفرنسي ماتيو دي ليسابس لإقامة تلك الكاتدرائية على أرض قرطاج و تحديدا على مرتفعات بيرصة.
ولإبراز الترابط بين الماضي و الحاضر جاء برنامج هذه التظاهرة حافلا بالأنشطة المبرزة لتقاليد بلادنا في الطهي و الطبخ بالخصوص عن طريق مجموعة من النسوة حاملات للأزياء التقليدية التونسية الاصيلة سيتولين على امتداد يوم كامل إعداد الأكلات و الأطباق التونسية بالاعتماد أصلا على المخزون الغذائي الوطني.
و سيدعى – لنيل نصيبهم من هذه الأطعمة المختلفة و الشاهدة على تنوع تراثنا الغذائي – السواح المتواجدون في الفضاءات السياحية القريبة على أن يتولى كل هؤلاء و في نفس اللحظة (منتصف النهار بالتدقيق) الاتصال هاتفيا بأقاربهم داخل أوطانهم للقول بأنهم متواجدون على أرض تونس و في مدينة سوسة بالتحديد حيث الأمان و جمال الطبيعة و المأكولات اللذيذة و تلقائية الناس. و للقول أيضا بأن كل شيء يدعو إلى زيارة هذا البلد الذي يسعى بكامل العزيمة إلى شق الطريق نحو الأفضل.
و ما المناظرة التي ستقام بالمناسبة بمشاركة تلاميذ و طلبة المدارس السياحية إلا تأكيد للحرص الكبير على الحفاظ على مخزوننا الغذائي و تطويره و الخروج به إلى دنيا الترويج داخليا و خارجيا، سيما و أن المتفوقين منهم سيجازون بالقيام بتربصات بالخارج لاستكمال مؤهلاتهم وتطوير خبراتهم.
ومن سوسة ميناء حضرموت الفينيقي إلى قرطاج حيث الاكروبوليوم الذي ينتصب داخله تمثال الملك لويس التاسع ليختلط الماضي بالحاضر و لتبرز من جديد الصورة الناصعة لتونس الحديثة.
وجدي مساعد
شارك رأيك