في النص التالي يستعرض الكاتب ذكريات خاصة مع جبل بوقرنين الرابض على ضفاف المتوسط بمدينة حمام الأنف جنوب العاصمة تونس و يستعرض حضور هذا المعلم الطبيعي في الأدب التونسي و العربي.
بقلم سُوف عبيد
ــ 1 ــ
صديقي الشاعر معمّر الماجري هو ثالث الثلاثة من الأصدقاء المتيّمين بمحبّة مدينة حمام الأنف مع الأديب جلال المخ والشاعر عبد الحكيم زريّر هذه الضاحية التي كتب عنها ـ بالإضافة إليهم ـ عديد الأدباء من بينهم علي الدوعاجي في إحدى قصصه والشاعر مصطفى خريّف في قصيده “بين جبل وبحر” وذكرها الأديب عزالدين المدني عند سرد ذكريات طفولته عندما لجأ إليها مع عائلته إبّان الحرب العالمية الثانية التي كتب عن إحدى وقائعها في مدينة حمام الأنف الشاعر مصطفى المؤدب وللشاعر عبد الرحمان الكبلوطي قصيدة فيها أيضا وقد ذكرها كذلك الأديب ميخائيل نعيمة في إحدى رسائله على إثر زيارته لتونس سنة 1961.
ــ 2 ــ
دعاني الصديق الشاعر معمّر الماجري في يوم رائق معتدل بعد أيام قرّ شديد إلى زيارة هذه الضاحية فكانت مناسبة لزيارة قبر جدّي رحمه الله في المقبرة القديمة ثم صعدنا الهُوينا عبر دروب جبل بوقرنين حيث كان صديقي يحدّثني بحنين عن ذكريات طفولته في محتلف الأحياء والشّعاب فكان ـ سي معمّر ـ محلّ ترحاب حيث ما مررنا أو جلسنا كيف لا وهو الذي عاشر مختلف أصناف أناسها جيلا بعد جيل عن قرب وعلى مدى سنوات فعرفهم وعرفوه في عديد الظروف وله معهم حكايات طريفة وعجيبة أحيانا
يوم كأنه من أيام الرّبيع ظفرنا به في عزّ أيام الشتاء الباردة والممطرة فلاحت الأشجار خضراء يانعة لامعة بقطرات المطر المتبقّية على أوراقها تحت الشمس الدافئة فكان كلما مررنا بشجرة ذكر لي اِسمها وخصائصها وأوجه الاِستفادة منها لكأنه خبير بها …كيف لا وقد كانت هذه الفجاج والشعاب والأودية مسرحا لألعاب طفولته مع أتراب حيّه بين كرّ وفرّ وبين سهر وسمر.
عندما بلغنا منبسطا من إحدى الشعاب توقف وحدثني أن هذا المنبسط كان في السنين الخوالي منتزها في فصل الربيع لعائلات حيّ الملاسين فترى الجميع في سرور وحبور مجتمعين حلقات حلقات طاعمين مع بعضهم شاربين كؤوس الشاي والأطفال في لهوهم وألعابهم بين الأشجار فرحون فيا لها من ذكريات ممتعة اِسترجعها بحنين صديقي الذي كلّما مررنا بأحدٍ أو جماعةٍ توقّف ليسلّم عليهم فيستقبلونه بحرارة ومودة وتقدير إذْ عاد إليهم بعد غياب مثلما عاد إلى مرابع طفولته في وهاد جبل بوقرنين الذي يعرفه شجرة شجرة ونبتة نبتة من العرعار والكالتوس بالإضافة إلى الصّنوبر الذي كان يقطف منه حبّات “الزّقوقو”.
ــ 3 ــ
كم حدّثني صديقي عن ولعه بجمع باقات زهرة السّكلمان ـ بخور مريم ـ الجميلة والنادرة الوجود والتي يختصّ بها جبل بوقرنين وكان يشير من حين لأخر إلى أصناف عديدة أخرى كالإكليل والزعتر والصبّار وإلى نبتة ( صبّاط الغول )التي كان يلُفّ بها باقة السّكلمان لتحفظها وتزيدها جمالا.
ومن النباتات الجبلية الأخرى التي أرانيها صديقي نبتة القيز وأعلمني أنّ نبتة البُصّيلة هي غذاء للخنزير يستخرجها من تحت الأرض وقد صادفتنا يومئذ آثار سيره أمّا نبتة التّيفاف فهي طعام لذيذ للحيوانات العاشبة يشاركها الإنسان أيضا في أكلها وقد قيل في المثل الشعبيّ ( آش يكفي الجمل م التّيفاف ) وحين تطلّ طلائع الرّبيع بأيّامه الأولى يكتسي الجبل بحلّته المزركشة التي فيها صفرة (القْرّيسة ) وحمرة الأقحوان فيلوح جبل بوقرنين بديعا للناظرين.
صعدنا رويدا رويدا حتى أشرفنا على زرقة الخليج المقابلة للاِخضرار تحت زُرقة السماء فيا لها من متعة رائقة إذ يحفّ بنا النّسيم كأنه أجنجة نرفرف بنا في خضمّ هذه الطبيعة البديعة في تونس الجميلة في كل ناحية من نواحيها حيث ما كنتَ أو اِتّجهتَ ولكنّنا لم نقدّرها حقّ قدرها مع الأسف فحينما بلغنا الربوة المطلّة على مدينة حمّام الأنف بدا لنا ـ البُرج الأخضر ـ في حالة دون ما يجب أن يكون لأنه كان في السنين الخوالي مَعلما سياحيا متميّزا أمّا عن “الكازينو” وكذلك “قصر الباي” فحدّث عن خرابهما ولا حرج.
ــ 4 ــ
لقد كان جبل بوقرنين مُلهما لبعض الشعراء والأدباء مثل الشاعر مصطفى خريّف الذي اِستقرّ بمدينة حمام الأنف مدّة من الزمن أثناء الحرب العالمية الثانية فكتب قصيدة “بين جبل وبحر” وهي في صيغة حوار بينهما وقد نشرها في ديوانه الأوّل “الشّعاع” سنة 1949 ثم أعاد نشرها في ديوانه الثاني “شوق وذوق” سنة 1965 ومنها قوله:
الجبل
يا بحر
أيّها الغائص في بطون الأرضين
السجين في أغوار الصخور وأكناف الرمال
يا رهين القيود والأصفاد والظلمات
ما أبعد أعماقك ! وما أبهم اِمتدادك
(البحر)
يا جبل
أيّها الضائع في أجواز السماوات
التائه في آفاق الفضاء الأبدية
المتحمّل أثقال السّحب وأنفاس الكواكب
يا مُنبت الصّخر والشّوك
و القتاد والجيف المتعّفنة
ما أحمق رسوخك
و ما أحقر تطاولك
ــ 5 ــ
عندما زار الأديب ميخائيل نعيمة تونس تونس سنة 1961 أرسل رسالة إلى اِبن عمّي سي الحبيب عبيد الذي كان في توديعه ذكر فيها جبل بوقرنين قائلا : “لكَم وددت يا صديقي الفتيّ لو كان لي أن أتحدّث إليك وإلى الكثير من الشبّان التونسيين أمثالك لا من على منبر المسرح البلدّي بل على شاطئ البحر أو في بستان من الزّيتون أو في سفح بوقرنين أو في أيّ مكان يطيب فيه الحديث فيجري طلقا عفويا ودونما أقل كلفة”.
نص الرسالة منشور في العدد الأخير من مجلة “الحياة الثقافية” التونسية:
ولصديقنا الشاعر عبد الحكيم زريّر قصيد زجلي بديع بعنوان “الهَمْهَامَا” وهو الاِسم الشّعبي لمدينة حمام الأنف وصف فيه مختلف معالم المدينة ومناطقها التي من بينها جبل بوقرنين حيث ورد فيه قوله:
مْدِينَة حَيَّة
مِزْوَارَة شِرْهَة شَعْبِيَّة
خْصُوصِي تْجِيهَا عْقَابْ عْشِيَّة
وْمَا نَحْكِيشْ عْلَى امَّالِيهَا
يَا مَحْلاَهَا
حِسْدُوهَا إِلِّي بَحْذَاهَا
بْخَصْلْتِينْ الْبَارِي حْبَاهَا
جْبَلْهَا وِبْحَرْ مْحَاذِيهَا
رَاهِي نَارُو
كَرْنَازِيسْ مَحْلَى خُنَّارُو
بْقِمْتِينْ وُسْطَ اشْجَارُو
قِمَّة وَحْدَة يْقُولُو بِيهَا؟
فُخْرِةْ نَارُو
تَدْفَا بْمَاهْ وْمَا تْشُوفْ نَارُو
مِنْ قْدِيمْ وْعَرْفُو كَارُو
جْمِيعْ لِبْرَايِدْ يْدَاوِيهَا
مِنْ بْعِيدْ
يْنَاجِي فِي سِيدِي بُوسْعِيدْ
الْمُوجَة تْوَصِّلْ فِي التَّنْهِيدْ
بْنِسْمَة فَايْحَة يْعَبِّيهَا
ــ 6 ــ
جمع صديقنا الأديب جلال المُخ في كتابه “حمّام الأنف في قلوب الشعراء” الصّادر عن دار المعارف للطّباعة والنشر سنة 2008 عديد القصائد لجمهرة من الشعراء والأدباء الذين كتبوا عن مدينة حمام الأنف ومن نكد الدّهر أن بلديتها رفضت اِقتناء ولو نسخة واحدة من هذا الكتاب المَرجع وهي المدينة التي كانت وما تزال سَكنا ومَزارا وقِبلة الأدباء والشّعراء والفنانين على توالي الأجيال وتتالي العصور من الشّرق والغرب على السّواء ومن أولئك الشّعراء المتيّمين بحبّها والوفاء إليها صديقنا معمّر الماجري صاحب قصيدة مبتكرة في غرض الرثاء أعتبرها إضافة جديدة لما حوته من الحنين والألفة في أسلوب سرديّ يعتمد بساطة التفاصيل الصغيرة ضمن السّهل الممتنع ولكنها بساطة وسلاسة تعبّران عن ألم ثخين بسبب فراق رفيقة عمره والقصيدة بعنوان “اِنعم بزوجك يا زوج الحذاء”:
كلّ الأفضيةِ
تَنَفٌّسُ ريحَكِ
في ” المغازة ” هذا الصّباحَ
حدّثَني زوجُ حِذاءٍ
أَنّهُ يُناسبُ مقاسَكِ
وأنّ لونَهُ الذي تُفضّلينْ
وأنّه قُدّ من الجلدِ الثّمينْ
و أنّ سِعرَهُ مناسبُُ
و أنّهُ … و أنّهُ …
قلتُ لهُ
يا زوجَ الحذاءْ
إنّها اِرتقَتْ
ما عاد يتّسعُ المَقاسُ
ما عادت تُغريها الألوانُ
ولا الأثمانُ
حبيبتي
حلّقَتْ روحُها
لا زوجةَ لي
اِنْعَمْ بزوجكَ
يا زَوجَ الحذاءْ
والشّاعر معمر الماجري يكتب في شتّى الأجناس الأدبية سَردا ونقدا وشعرُه مختلف المواضيع والأشكال إلا أنّه إلى الطقوس العمودية أميل مثل قصيدة “رحلة هوجاء” التي كتبها عندما بلغ الستين من العمر والتي يذكر فيها الحيّ الذي مررنا به حيث يقول فيها:
ستّون عاما قد ركبتُ مَطيّها
في رحلة هوجاءَ دون قرارِ
في حيّنا الشعبيٌّ نسجُ ملامحي
غصنا تربّى في حِمى الأشجارِ
و لقد نشأنا في العراكِ من الصّبا
” سيزيفُ ” يعشق لذّة الإصرارِ
والفقرُ لمٌا سامنا بسياطه
قلنا له إنّي اِتّخذتُ إزاري
من صبر أيّوبَ الجميلِ حبكتُهُ
من قصّة الإيمان بالأقدارِ
ما زلتُ أذكر في الديار حمامتي
زجل الحمام معلّق بجداري
قد بحت بالحبّ الجميل كرامةً
لا يُفقد البوحُ الجميلُ وَقاري
ستّون عاما قد مررن بسرعة
الله أعلمُ ما مدى الأعمارِ
هي إذن قصيدة السّيرة الذاتية المفعمة بالحنين والشجون
ــ 7 ــ
ما كنت أدري قبل أربعين أن أحد تلاميذي النّجباء في معهد فرحات برادس وهو الصّديق عبد الوهّاب الهاني كان يعرض عليّ وقتها بعض القصائد لصديق له حتّى أبدي فيها رأيي فكنت أشجّع صديقه على المواصلة والمطالعة وتمرّ الأيام والأعوام لأجد نفسي أمشي مع صاحب تلك القصائد على دروب جبل بوقرنين.
وبهذه المناسبة أذكر عندما كنت بالسنة الأولى أو الثانية من التعليم الثانوي بالمدرسة الصّادقية في منتصف ستينيات القرن العشرين الماضي بعثتُ مع زميلي وصديقي هشام بالشّيخ قصائدي الأولى إلى أخته الأديبة حياة بالشيخ فقد كانت من أبرز الأديبات التونسيات في تلك السنوات فقرأت قصائدي وكتبت لي ملاحظاتها القيّمة التي اِستفدتُ منها فإليها جزيل الشكر وفائق التقدير.
ما أبلغ قول الجاحظ : “ينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا”.
شارك رأيك