نظّم المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” يومي 7 و 8 مارس 2024 ندوة دوليّة بعنوان “الموسيقى وعلم الأعصاب” بمشاركة عدد من الباحثين من عدة دول.
بقلم عزالدين العامري
تختزل المقاربات الكلاسيكيّة الفعل الموسيقي في البعد الترفيهي المحض، بل تذهب بعض الأطروحات التقليديّة نحو الحد الأقصى من تهميش البعد الوظيفي للممارسة الموسيقيّة، مصنّفة هذا الجنس الإبداعي ضمن المجون، واللهو البلاطي ذي الطابع الاحتفالي غير المرتهن بالرسالة الهادفة، على الرّغم من الإستثناءات الفلسفيّة والإبداعيّة التي كانت مدركة لمنزلة الخلق الموسيقي بوصفه خلاصا من الوجود الرتيب سعيا إلى تأصيل الكيان.
الجملة الموسيقيّة على طاولة التشريح
وظلّت استثنائيّة الأطروحات المؤمنة بوظيفيّة الأعمال الموسيقيّة محلّ سجالات إلى أن حلّت مواكب التشريح العلمي، تلك التي أملت عبر حفرياتها في الجسد الموسيقي إعادة النظر في الدراسات الموسيقولوجيّة، فأضحت الجملة الموسيقيّة على طاولة التشريح البيولوجي والطبي، وغدت مبحثا سوسيولوجيا، وأولويّة من أولويات الباحث الأنتروبولوجي، وحلاّ من الحلول العلاجيّة التي يلجأ إليها الطبّ النفسي، وكذلك المخابر الطبيّة العضويّة، بل أصبحت هذه الجملة الساحرة سؤالا من الأسئلة الفلسفيّة الموغلة في الحسّ الإشكالي، لذلك أصبحت الإبداعات الموسيقيّة مجالا للبحث الأكاديمي المختص.
وفي هذا الإطار نظّم المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” يومي 7 و 8 مارس 2024 ندوة دوليّة بعنوان “الموسيقى وعلم الأعصاب”، وانتظمت سلسلة جلساتها العلميّة بالتعاون مع أكاديميّة العلوم ببولونيا، ومخبر البحث في الثقافة والتكنولوجيات الحديثة والتنمية، والمعهد الفرنسي بتونس، وأفركن بيوتكنولوجي سوسايتي. وتنوّعت المداخلات نظرا إلى تعدّد اختصاصات المحاضرين من تونس، ومن جنسيات مختلفة، حيث واكب روّاد بيت الحكمة على امتداد يومين سجالات “حول ترسانة من الأسئلة الإيبستيمولوجيّة”، وحول مواطن التفاعل والتقاطع بين الأجناس المعرفيّة والاختصاصات المختلفة كما ورد في النص التقديمي لمحتوى الندوة، التي جمعت بين تشريح العلوم التجريبيّة، ومعادلات علماء الرياضيات، وحفريات العلوم الإنسانيّة، وتشخيص الموسيقولوجيين، وتأمّلات الفلاسفة وخيال المبدعين.
تأثيرات القطعة الموسيقيّة في البنية النفسيّة
فلم تجتمع تلك الاختصاصات اعتباطيّا، أو رغبة في تسجيل الحضور لأنّ مضامين المداخلات تؤكّد وظيفيّة كلّ حقل معرفي بالنسبة إلى المجالات المعرفيّة الأخرى، فالتحليل العضوي ينهل من التشخيص السيكولوجي، والعكس يستقيم، والمكوّن النفسي للفرد مؤثّر في النسيج الاجتماعي، وما هو اجتماعي فاعل في السيكولوجي، والمبحث الأنتروبولوجي لا يدرك تفاصيل أيّ مكوّن بمعزل عن المكوّنات الأخرى. وعليه تكون تأثيرات القطعة الموسيقيّة في البنية النفسيّة موطن التقاء بين جميع هؤلاء المختصين، فكلّما اقتحمنا مجالا من مجالات النظم المعرفيّة بدا لنا الأجدر بتشخيص منزلة الموسيقى في التجربة الوجوديّة، ففي مجال الطب البديل تعدّ من أبرز حلوله العلاجيّة، ولدى السوسيولوجي والأنترولوجي هي الشاشة التي عبرها يتأمّل الباحث الخصائص الإبداعيّة والثقافيّة والسلوكيّة للشعوب، وعبرها يفكّك المحلّل النفسي طاقات الليبيدو والمكبوت وردود الأفعال، وعالم الرياضيات يعتبرها ناطقة بلغته، والألسني ينصّب نفسه سيّدا في قصر تأويلها باعتباره خبيرا في تحليل خطابها، ومتمكّنا من فنّ استنطاق النصوص.
تلك هي العوامل التي دفعت بقسمي الفنون والعلوم ببيت الحكمة إلى استضافة باحثين وأكاديميين من جميع هذه الاختصاصات لتقديم مضامين معرفيّة وتجارب إبداعيّة حول طقوس الخلق الموسيقي أوّلا، وأسرار الاستماع والاستمتاع بالظاهرة الموسيقيّة ثانيا، وانعكاسات الرحلة الاستكشافية في قارّة الموسيقى ثالثا. لنتأكّد من وجاهة قول الغزالي ” من لم يحرّكه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج”، ومن عمق مقاربة هيجل حينما ردّدت قائلة “الفن لغة تخاطب الروح وإن كانت خرساء”.
لكن هل تبرّر لنا قيم الخصوصيّة وحريّة الذائقة وفردانيّة الإبداع سحب كل ما تقدّم على جميع التجارب الموسيقيّة؟ وكيف تتعايش الإستيتيقا الخلاّقة مع قيم المجتمع الاستهلاكي بما يمتلك من تقنيات صناعة الذائقة؟ ألم تعد الميول طيّعة ومنسجمة مع الذات المنمذجة؟ أو ما يعبّر عنه أحد أقطاب مدرسة فرنكفورت الفيلسوف ماركوز بالإنسان ذو البعد الواحد؟
شارك رأيك