أشهر قليلة تفصل تونس عن الانتخابات الرئاسية وهي استحقاق وطني كبير في ظل تأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا النوع من الاستحقاقات – وإن تم – يظل منقوصا في ظل غياب الرزمة الحزبية المؤثرة في المشهد، و التنوع السياسي، والتفاعل الديمقراطي واسع النطاق الذي ينشده السياسيون داخل البلاد وخارجها، وفي ظل تأثر المشهد الانتخابي بما يجري حولنا من تغيرات جذرية أسهمت جميعا في تركيب واقع جديد قد يكون أفضل مما كان.
بقلم فوزي بن يونس بن حديد
اقترب الاستحقاق الرئاسي بتونس في وقت ما زالت البلاد تترنّح نتيجة الأزمات المتتالية والمتلاحقة والمعقّدة أحيانا سواء كانت محلية أو عالمية، وتجد الجمهورية التونسية نفسها أمام كل ذلك وكأنها غير مستعدّة لهذا العرس الانتخابي الذي يُطلّ عليها كل خمس سنوات، لكن المتأمل في الأحداث الجارية والتي مضت، يعلم أن المواطن التونسي لا تحفّزه كثيرا مثل هذه الاستحقاقات الآن لاعتبارات عدّة على رأسها اشتغاله بالبحث عن لقمة عيش تكفيه شرّ أحوال الدهر.
وبالبحث في زوايا دهاليز السياسة، نرى أن الأحزاب السياسية المنافسة على كرسي الرئاسة قد خفت صوتُها إلى حد بعيد، فحزب حركة النهضة تلقى صفعة قوية منذ 25 جويلية 2021 ولم يعد قادرا على المنافسة بشكل جدي، فهو قد خسر رهانه على الشعب بعد أن لعب السياسة وفشل في تحقيق ما يصبو إليه الشعب التونسي في الفترات الماضية خاصة تلك التي سبقت الانتخابات الرئاسية بعد الثورة مباشرة.
وظل حزب النهضة يتخبط ويتصارع مع أحزاب أخرى لها أصوات مؤثرة نسبيا ولم يكن له برنامج واضح في الأفق منذ البداية لأن مغادرة بن علي البلاد التونسية في 14 جانفي 2011م كانت مفاجأة مدوية لجميع الأحزاب السياسية المعادية والمعارضة له، وما استطاع الحزب الإسلامي أن يفرض سطوته السياسية ويبسط جناحي العدل والأمن في البلاد التونسية فكانت النتيجة النكسة العظيمة التي حدثت في 25 جويلية 2021م حينما أقصاه الرئيس المنتخب السيد قيس سعيّد من المشهد السياسي لتفاقم الأزمة آنذاك ودخول البلاد في فوضى عارمة وصلت إلى حدّ لا يطاق مما استوجب تدخّل الرئاسة بإصدار مراسيم لها دلالات حُكْمية تحدّ من هذه الانتكاسات الخطيرة في جسم السياسة التونسية، وتعرّض بعض قياديي الحزب إلى التوقيف والسجن مثل رئيسه الشيخ راشد الغنوشي ومثل علي العريض ونور الدين البحيري و محمد بن سالم وغيرهم ووُجهت لهم تُهم مختلفة.
محاولة وضع حد للفوضى السياسية
أما حزبُ ائتلاف الكرامة الناشئ الذي قاده سيف الدين مخلوف فعُرف عنه معارضته الشديدة لإجراءات رئيس الجمهورية التي قام بها في 25 من جويلية 2021م واصطدم بمؤسسة الرئاسة وطالب بوقف تلك الإجراءات فورا، ونظرا لاتجاهه الديني السلفي تحديدا أوقعه ذلك في صدام عنيف مع الحزب العلماني أو البورقيبي (الحزب الدستوري الحر) الذي تقوده السياسية عبير موسي خاصة في قبة البرلمان وصل حدّ التلاسن والتلاكم مما استوجب التدخل الفوري من مؤسسة الرئاسة وإنهاء هذه المعركة السياسية والحزبية والشخصية بين المتنازعين بعد زج كل منهما في السجن وإجراء تحقيقات ضدهما وتوجيه تُهم لهما، فحبط طموحهما نحو إرساء نظام حكم جديد في تونس بعد الثورة.
وأما حزب السيد المنصف المرزوقي، المؤتمر من أجل الجمهورية الذي كان له صيت كبير بعد الثورة مباشرة، واستطاع زعيمه أن يشغل منصب رئيس الجمهورية بعد اختياره رئيسًا مؤقتًا كم طرف حركة النهضة في 12 ديسمبر 2011م وحصوله على أغلب الأصوات في المجلس الوطني التأسيسي. لكنه أخفق في الحصول على الأغلبية في انتخابات 2014م أمام الباجي قايد السبسي الذي اُنتخب رسميًّا رئيسًا للجمهورية في الفترة بين 2014م إلى 2019م، وبعد هزيمته في سنة 2014 بدأ صوته يخفت شيئا فشيئا ولم يستطع الصمود طويلا خاصة بعد معارضة المرزوقي الإجراءات التي أقدم عليها الرئيس الحالي السيد قيس سعيّد بل هاجمها بقوّة وعرّضه ذلك للمساءلة القانونية وهو يقيم منذ 2014 في فرنسا.
في حين بقيت الأحزاب الأخرى بين موافق تام للإجراءات وموافق موافقة جزئية لها وللإصلاحات التي أقدمت عليها مؤسسة الرئاسة تباعا منذ ذلك التاريخ المفصلي في حركة التغييرات الجوهرية على نظام الحكم في تونس حيث تحول الحكم من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، وبموجبه أصدر الرئيس السيد قيس سعيد جملة من المراسيم منها تعيين حكومة جديدة تداول على رئاستها كلٌّ من نجلاء بودن وأحمد الحشاني تكون تحت إشراف الرئيس المباشر، وانتخب مجلس نواب جديد بعد حلّ المجلس القديم وإنهاء عمله رسميًّا، وإلغاء الحصانة عن نوابه.
تواصل تدهور الوضع الاقتصادي
وإلى جانب ما يحدث في السياسة هناك أزمات أخرى أثرت كثيرا على المشهد السياسي خلال الفترة الماضية منها تدهور الوضع الاقتصادي إلى حدٍّ فقدَ المواطن القدرة الشرائية مع ارتفاع الأسعار بصورة جنونية وندرة المواد الأساسية، ووقوع البلاد فريسة بين يدي صندوق النقد الدولي وتبعياته وشروطه التي أراد أن يفرضها على السياسة الاقتصادية بالبلاد قبل أن يمنحها أي قرض يمكن من خلاله أن تتنفس البلاد، ثم الوضع الاجتماعي المتدهور وعلى رأسه البطالة التي تفاقمت بشكل كبير أجبرت الشباب على المغامرة والمخاطرة والهروب الجماعي من البلاد بحثا عن الأفضل ووقوعهم في فخ الهجرة السرية وتبعاتها الخطيرة من تحديات البحر الأبيض المتوسط والوقوع في الأسْرِ سواء على الحدود التونسية أو على الحدود الإيطالية الأوروبية وقليل من نجا وتجاوز الحدود بسلام. إلى جانب الأزمات المتتالية التي عمّقت جميع هذه المشاكل مثل كورونا والحرب على أوكرانيا والحرب على غزة وتبعاتها المدوية والمشاكل المتعلقة بالفساد جعلت الدولة مُنهكة إلى حد بعيد.
وحتى تستعيد البلاد قوتها ونفَسها يلزمها كثير من الوقت والجهد والعمل، وهذا يتطلب عملا جماعيا ووطنيا من أجل أن تنهض ويتحرك اقتصادها وينعم مواطنوها بالأمن والأمان والسّلم والسلام، ويهدأ شبابها في ربوعها، ويعمل على ازدهارها ورقيّها، ولكن وهي تعيش الأشهر القليلة القادمة استحقاقا وطنيا كبيرا في ظل تأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية يجعل هذا النوع من الاستحقاقات – وإن تم – منقوصا في ظل غياب الرزمة الحزبية المؤثرة في المشهد السياسي التونسي، والتفاعل الديمقراطي واسع النطاق الذي ينشده السياسيون داخل البلاد وخارجها، وفي ظل تأثر المشهد الانتخابي بما يجري حولنا من تغيرات جذرية أسهمت جميعا في تركيب واقع جديد قد يكون أفضل مما كان.
شارك رأيك