لعل القيادة السياسية الحالية في تونس محتاجة لأمثال السيد محمد التريكي القادر على طبخ أكلات سياسية تونسية تعيد المستقبل الذي بدأ يتلاشى و تحل محله علامات الإحباط و الفشل الذريع.
بقلم أحمد الحباسي
صدر للسيد محمد التريكي كتاب “الحركة الكشفية التونسية مساهمتها فى الاستقلال و بناء الدولة“، يروى مسيرة الرجل كقائد عام للكشافة التونسية و رئيس المنظمة الكشفية العربية و عضو المكتب العالمي للكشافة.
هذا الكتاب بما تضمنه لا يدخل كما يخيّل للبعض في باب السير الذاتية أو المذكرات أو شيئا من هذا القبيل لأن ما احتواه من أسرار و وقائع و تصريحات و وثائق يجعله أقرب إلى كتاب توثيق تاريخي لمراحل مهمة من تاريخ الحركة الكشفية في تونس و بهذا المعنى و نظرا لموقع الرجل و ما عايشه من تقلبات و مد و جزر تعلقت بمراحل الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي فهذه شهادة للتاريخ و وثيقة مهمة تحفظ كثيرا مما أتلفته السياسة الانتهازية لبعض الشخصيات التونسية التي عاشت تلك الفترة و كان أداؤها مريبا و يحمل عديد نقاط الاستفهام التي ظلت بلا جواب إلى حد هذا التاريخ.
طباخ سياسة من الدرجة الأولى
ربما هناك وجه على غاية من الأهمية لم يتطرق له السيد محمد التريكي فى هذا الكتاب و لا في كتابه المميز السابق “المعركة الحاسمة، الاستقلال و بناء الدولة الحديثة و تسليم السلطة للشعب” و لعل الرجل بفطنته المعروفة و من باب التحفظ الذي لا يزال يراوده رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة منذ ابتعاده الطوعي عن ممارسة السياسة و تقلد المناصب قد أراد التعتيم عليه حتى لا يتهم ببعض الاتهامات الخارجة عن اللياقة الجدلية رغم كونه و كعادته طيلة مسيرته الطويلة و الزاخرة بالأحداث السياسية الجسيمة و تقلبه في المناصب و المواقع المهمة و الحساسة داخل الدولة لا يخاف في قول الحق لومة لائم.
لعل ما لا يريد الرجل الإفصاح عنه هو أنه طباخ سياسة من الدرجة الأولى وهي ميزة استثنائية نفتقدها منذ ما بعد 14 جانفى 2011 و تكاد تكون منعدمة تماما الآن.
بطبيعة الحال ربما يتفاجئ الرجل بما أقول و ربما سيحبذ المواصلة فى طريق التعتيم و لكن ولأن الأمر مهم فلا بأس من التعرض إليه.
الطبخ السياسي وراء الكواليس
ماذا أعنى بعبارة “طباخ سياسة”؟ لعل من يهتم بالسياسة قد تفهم سريعا ماذا أقصد و لعلني لن أذيع سرا حين أؤكد أن السياسة الحقيقية لأية دولة في العالم ليست هي السياسة المعلنة في أغلب الأحيان أو أن ما نسمعه على ألسنة رجال الحكم هو عنوان الصدق و الحقيقة و بهذا المعنى فهناك من يمكن أن نطلق عليهم وصفا برجال الخفاء و هؤلاء الرجال الذين يمارسون مهنة الطبخ السياسي وراء الكواليس و ما يسمى بالغرف المغلقة مكلفون بمهمات عسيرة تتطلب خبرة سياسية عالية و حنكة في التصرف و قدرة فائقة على المناورة و تدوير الزوايا و تلطيف الأجواء و الصبر بلا حدود و القدرة على حفظ الأسرار و تجنب التصريحات و الأضواء الإعلامية إلى غير ذلك من الصفات النادرة و المحبذة.
لقد عايش السيد محمد التريكي فترات عصيبة سواء في فترة الكفاح التحريري أو أثناء تقلده لعدة مناصب مختلفة و ربما سنذيع سرا يرفض الرجل كشفه يتعلق بفترة الخلاف الخطير بين قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل ممثلة في الأمين العام الراحل السيد الحبيب عاشور و بين الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.
لقد وصل الخلاف بين الزعيمين الحبيب بورقيبة و الحبيب عاشور إلى ذروته نتيجة عوامل مختلفة لعل من أهمها هو العناد و الزعامة و لذلك وصلت العلاقات بين الرجل إلى الصدام المزعج الذي بإمكانه تهديد السلم الاجتماعية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
لقد كانت هناك دعوات ملحة من بعض السياسيين في المعارضة للمطالبة بضبط النفس يقابلها عدم قبول من الجانبين المتخاصمين بحيث بات الصدام الدموي قريبا و هنا شهد المشهد السياسي تدخل السيد محمد التريكي باعتباره طرفا مقبولا من الجانب النقابي و بصفته مفوضا من الحكومة و الحزب و تم عقد لقاءات عاصفة بمكتب المحاماة الذي يشتغل فيه الأستاذ المرحوم المختار التريكي شقيق السيد محمد التريكي بنهج مرسيليا بتونس.
لعل التاريخ سيذكر تلك الساعات المرعبة التي عاشتها تونس و لعل التاريخ سيذكر أيضا دور السيد محمد التريكي في كل ما تم من خفض نسق التصعيد و التوتر مقدما مصلحة البلاد متفانيا بلا هوادة في إصلاح ذات البين و رتق الخلافات التي كادت أن تحرق الأخضر و اليابس و تقضى على ركائز دولة الاستقلال التي ناضل الرجل بكل قوته لتدعيمها مع رجال بررة مخلصين.
لعل القيادة السياسية الحالية محتاجة لأمثال السيد محمد التريكي القادر على طبخ أكلات سياسية تونسية تعيد المستقبل الذي بدأ يتلاشى و تحل محله علامات الإحباط و الفشل الذريع.
كاتب و ناشط سياسي.
شارك رأيك