شهد الاقتصاد العالمي عدة هزات واضطرابات خلال العقد الماضي لعل أبرزها عدم استقرار أسعار النفط منذ عام 2014، مرورا بجائحة فيروس كورونا في نهاية 2019، ثم التداعيات السلبية للحرب الروسية على أوكرانيا منذ بداية سنة 2022، وصولا الى طوفان الأقصى، وما تبعه من اعتداءات الكيان المحتل والإبادة الجماعية في غزة.
وليد الكسراوي
أشارت توقعات صندوق النقد الدولي لأداء النمو الاقتصادي العالمي من خلال تقريره حول “آفاق الاقتصاد العالمي في أكتوبر 2023” أن النمو الاقتصادي العالمي الحالي لم يتجاوز 3% في 2023، ومن المتوقع تراجعه الى 2.9% عام 2024. التقرير أشار أيضا إلى أن التضخم وصل إلى حدود 5.9% عام 2023 بينما سيتراجع إلى 4.8% عام 2024.
صراع القوى الاقتصادية العالمية:
بلغ الصراع بين القوى الاقتصادية العالمية ذروته خلال السنوات الأخيرة لعل أبرزه الصراع الأميركي الصيني. المباحثات الدبلوماسية المكثفة بين البلدين تعكس بوضوح محاولة إرساء قواعد تضمن مصالح كل طرف من خلال لقاء رئيسي البلدين في الولايات المتحدة خلال نوفمبر 2023 او من خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي للصين مطلع الشهر الحالي والتي تناولت موقف البلدين من التوترات السياسية الراهنة ومدى انعكاساتها على الاقتصاد العالمي بالإضافة الى مسالة حجب التكنولوجيا الأميركية عن الشركات الصينية وما تبعه من ردود أفعال الحكومة الصينية ردا على القرارات الأميركية بهذا الشأن.
وهنا لا بد من الإشارة ان الصراع الأميركي الصيني هو صراع مصالح بالأساس بعيدا عن الإيديولوجيا. فكلا الطرفين متمسك بقواعد الاقتصاد الرأسمالي المتوحش من خلال التحكم في الأسواق العالمية عبر شركاتها العملاقة والمتفرعة في كامل أنحاء المعمورة.
• السياسة المالية الامريكية: يشهد الاقتصاد العالمي منذ عام 2023 عدة اضطرابات أهمها تواصل ارتفاع أسعار الفائدة، وخاصة في السوق الأميركية، وهو ما أثر بشكل كبير على أسواق المال العالمية، ساهم في رفع تكلفة التمويل في العديد من الدول النامية والصاعدة.
تعود هذه الاضطرابات في جذورها إلى أحداث الحرب الروسية الأوكرانية بداية سنة 2022، وما تبعها من ارتفاع كبير في أسعار النفط والغاز، ثم ارتفاع تكلفة أسعار المواد الغذائية، وهو ما أثار مخاوف تكرار أزمتي الطاقة والغذاء التي شهدها الاقتصاد العالمي في عامي 2006 و2007 (والتي بلغت خلالها معدلات التضخم مستويات غير مسبوقة في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث وصلت المعدلات آنذاك إلى 9.1%، وهو الأمر الذي ادى إلى انهيار بنوك أميركية كبرى، بسبب خلل هيكلها التمويلي الذي بني على أسعار فائدة منخفضة، وهو ما اضطر المودعين لدى هذه البنوك إلى سحب مدخراتهم، وتسبب ذلك في أزمة سيولة لديها قبل تدخل الحكومة الأميركية لدعم هذه البنوك وإنقاذها من الافلاس من خلال توفير السيولة اللازمة، ليتم بعد ذلك تصدير أزمة البنوك الأميركية الى باقي دول العالم.) وهو ما دفع صانع السياسة المالية في العالم الى رفع سعر الفائدة لامتصاص هذا التضخم.
كما اتخذ سعر الفائدة مسارا تصاعديا حتى بلغ اليوم حدود 5.25%- 5.5%، قبل أن يقرر المجلس الفدرالي الأميركي تثبيته عند هذا المستوى في آخر اجتماع له في ديسمبر 2023. هذا وقد اشار البنك المركزي الأميركي في اجتماعه الأخير أن السياسات النقدية الأميركية الحالية لم تعد فعالة بالشكل الذي تريده الو.م.أ وانها بصدد إعداد سياسات جديدة تتلاءم مع الأوضاع السياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم خصوصا في ظل اعتماد بعض الإقتصاديات العظمى في مبادلاتها التجارية على عملاتها المحلية واستغنائها على الدولار الأميركي لأول مرة منذ عقود من الزمن.
تذبذب اسعار الطاقة: شهدت أسعار النفط منذ بداية 2023 تقلبات عدة، بسبب ضعف أداء النمو الاقتصادي من جهة وانعكاسات الأحداث سياسية من جهة أخرى، لكن ما يلاحظ هو الترابط الوثيق بين المؤشرات الاقتصادية التي تخص أميركا أو الصين وعلاقتها بتحريك أسعار النفط صعودا وهبوطا.
ورغم أن أسعار النفط في السداسي الأول لسنة 2023 كانت متماسكة عند متوسط 85 دولارا للبرميل، إلا أن السداسي الثاني لنفس السنة شهد تراجعا ملحوظا بلغ 72 دولارا للبرميل ليعود في الارتفاع مجددا مطلع سنة 2024 حيث بلغ 90 دولارا للبرميل ويعاود تراجعه مؤخرا في حدود 78 دولار للبرميل في الوقت الحالي.
وعلى الجانب الآخر، فإن الأحداث التي تعيشها غزة اليوم مع دولة الاحتلال ساهمت في مزيد تعميق أزمة الطاقة إقليميا ودوليا كما ساهمت العمليات العسكرية التي فرضتها جماعة الحوثين على حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر إلى إشعال أسعار النفط، ومن هنا تم وصف معادلة النفط في الأسواق الدولية بأنها غامضة.
في أوروبا تم التعامل مع أسواق النفط والغاز خلال 2023 بما يمكن أن نسميه استيعاب الأزمة، وإداراتها بشكل جماعي، ومحاولة فرض سعر موحد للنفط الروسي، وهو ما خفف من الأعباء المالية على الدول الأوروبية وأوجد بعض من الاستقرار، لكن ذلك لا يعني انتهاء هذه الأزمة، خاصة أن تكلفة الطاقة بالنسبة للدول الأوروبية بعد أزمة الحرب “الروسية – الأوكرانية” كانت الأعلى على مدار السنوات الماضية.
واقع الاقتصاد العربي:
الواقع الاقتصادي للدول العربية يجعل من الصعب القول بأنه اقتصاد متجانس، لا من حيث خصائصه ولا من حيث معدلاته، فهناك الدول النفطية -دول الخليج والعراق والجزائر وليبيا- لها بنيتها وهيكلها الاقتصادي والمالي. وهناك دول غير نفطية التي تتسم تركيبتها اقتصادية بتنوعها مثل تونس مصر، والمغرب، والأردن، ولبنان، ودول شديدة الفقر أو أقل نموا مثل السودان، موريتانيا واليمن.
في خصوص الاقتصاديات النفطية، فإن وضعها المالي كان أفضل خلال الفترة الماضية بسبب أسعار النفط التي مكنت معظم الدول النفطية من تحقيق فوائض مالية، وتحسين خزائنها من النقد الأجنبي، كما ساهم ارتفع أسعار المحروقات في الحد من نسب الدين الخارجي، رغم ما تعانيه هذه الدول من مشاكل هيكلية في اقتصادياتها التي بقيت رهينة ارتفاع او تراجع اسعار المواد الطاقية في السوق العالمية واعتمادها على الخام بشكل كبير.
أما بالنسبة للدول صاحبة الاقتصادات المتنوعة، التي تصنف كذلك بأنها متوسطة الدخل، ففي غالبيتها تعاني من أزمة تمويل، يمكن وصفها بالخانقة في تونس او مصر رغم بوادر الانفراج التي لاحت للأخيرة من خلال إبرامها لاستثمارات ضخمة مع دولة الإمارات في مشروع راس الحكمة والاتفاق المبرم مع صندوق النقد الدولي لإقراضها مستقبلاً والذي من شانه إخراج مصر من أزمتها الاقتصادية الخانقة.
في حين ان المعادلة في لبنان تعدّ أكثر تعقيدا، رغم حالة التفاؤل بعد التوصل لاتفاق بشأن الحدود البحرية، وتمكين إسرائيل من التنقيب عن الغاز في الحدود المشتركة، لكن عدم القدرة للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي ساهم في حالة الركود الاقتصادي الحاد والتي أثرت تداعياته على الوضع المالي العام.
اما في خصوص المغرب والأردن، نجد أن البلدين رغم وجود بعض الصعوبات الاقتصادية، الا ان حالة الاستقرار السياسي من جهة وإمكانية الحصول على تمويلات خارجية من المؤسسات الدولية عند الحاجة، وتنوع نسيجها الاقتصادي يمكنها من تجاوز العقبات.
اما في خصوص الدول التي تعاني من ويلات النزاعات المسلحة، مثل ليبيا، سوريا، اليمن، السودان والعراق فإن حدة الأزمة الاقتصادية تختلف من بلد إلى آخر لعل أبرزه حالة الانتعاش النسبية التي تشهدها ليبيا والتي بلغت نسبة النمو فيها الى 7,9% والتي عادةً ما تكون فيها نسب النمو مرتفعة مباشرة بعد تجاوز الأزمات والنزاعات المسلحة في محاولة لإعادة الأعمار. في حين ان السودان تشهد تفككا عميقا للدولة، وخضوع موارده الاقتصادية للأطراف المتنازعة.
استشراف الأوضاع الاقتصادية في 2024:
بقي الاقتصاد العالمي رهين توصل القوى الاقتصادية الكبرى إلى تسوية تضمن مصالحها وتمكنها من مواصلة التحكم في باقي اقتصاديات الدول الأخرى وهو ما يفسر الإلتجاء الى النزاعات العسكرية في الكثير من الأحيان لإعادة خلق التوازن المفقود ومواصلة الهيمنة الاقتصادية.
وعلى الصعيد العربي، لا يلوح في الأفق إمكانية التعاون الاقتصادي العربي، والذي قد يمكنها من الحد من حالة التبعية للمنطقة ككل للخارج، أو يؤدي إلى استثمار أفضل للموارد الاقتصادية المتاحة. كما أن دول النزاع في المنطقة العربية، والتي أشعل فتيلها جراء التدخلات الخارجية التي سعت الى زعزعة الأوضاع وتأجيجها لعدة غايات منها ما هو استغلال ثروات هذه الدول ومنها ما هو نتيجة مواقف سياسية واقتصادية متضاربة مع مصالح القوى العظمى ومنها ما هو نتيجة حالة من الخضوع والتبعية لقادة باعوا ذممهم وأوطانهم وارتموا في أحضان الخارج.