لقد أثبتت التجربة أن عمليات استطلاع الرأي في تونس منذ بدايتها عام 2011 لم تكن كلها شفافة و مهنية و محايدة حتى جاءت فضيحة الشركة تونيزيا ميترز الأخيرة في ظل الغياب التام منذ 2021 لمكاتب استطلاعات الرأي المعروفة بحرفيتها و جديتها وهي كثيرة في تونس.
أحمد الحباسي
استطلاعات الرأي الجدية من علامات الديمقراطية لذلك يهتم الغرب بما يخرج عن مؤسسات استطلاع الرأي و يتابعها بمنتهى الشغف و تنصب لتحليلها و سبر أغوارها مواد إعلامية تجمع المختصين و ذوى الخبرة من السياسيين و أصحاب الشأن من الأحزاب المختلفة و المرشحين في الانتخابات.
ما يثير الملاحظة في الانتخابات الغربية أن عمليات و نتائج استطلاعات الرأي لا تكذب في الغالب و تكون متقاربة تماما مع حقيقة نتائج الانتخابات و هي تعكس استقلالية واضحة لا لبس فيها على عكس ما يحدث عندنا حين لا تخجل بعض مؤسسات استطلاع الرأي من إيراد نسبة مرتفعة لمرشح في نوايا التصويت مع أن الرجل أبعد ما يكون عن تلك النتيجة المفتعلة و هو نفسه لا يصدقها لعدم تناسقها مع رصيده السياسي السلبي و مع قلة المتابعين له و المنتسبين لحزبه الكرتوني.
استطلاعات رأى على المقاس
لعل ما حصل عندنا منذ ما بعد 14 جانفى 2011 من نتائج استطلاعات رأى على المقاس و ربما مدفوعة الأجر يدفع إلى التساؤل هل أن ديمقراطيتنا الوليدة تحتاج إلى مثل هذه الأعشاب الطفيلية التي تقضى على مصداقية كل ما ينتج عن الانتخابات و هل أن من أنتجوا مثل هذه الألعاب البهلوانية التمويهية يدركون أنهم قد أجرموا في حق الديمقراطية.
لكن حدث أيضا أن عددا من استطلاعات الرأي قامت بها مكاتب دراسات جدية أعطت أرقاما و نتائج قريبة جدا من الحقيقة بل أن صعود قيس سعيد في استطلاعات الرأي بدأ عدة سنوات قبل انتصاره الانتخابي عام 2019 و كان أنذاك عدد من التونسيين لا يصدقون ذلك و يتهمون مكاتب الاستطلاعات بالعمل علي تصعيد فقاعات سياسية. و قد ثبت العكس حيث أن مكاتب الاستطلاعات كانت ترى ما لا يراه المواطنون المنتمون السياسيون.
لقد أثبتت التجربة أن عمليات استطلاع الرأي لم تكن كلها شفافة و مهنية و محايدة و أن كثيرا من المياه قد سالت تحت القنطرة كما يقال و لقد جاءت فضيحة الشركة تونيزيا ميترز و التي وضعت ترتيبا تفاضليا مشبوها للسيد المنذر الزنايدي أحد المرشحين للانتخابات الرئاسية القادمة الذي يعتبره الكثيرون ممثلا لما يسمى بالدولة العميقة في إشارة إلى كونه ممثل كل الأشخاص المتضررين من سقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن على و أحد الطامعين في أصوات اللوبيات الممسكة بدواليب الاقتصاد التونسي و القادرة بفضل المليارات المشبوهة التي تملكها على إيصاله إلى كرسي الرئاسة مستغلة الوضعية القضائية المشبوهة التي تتعرض إليها السيدة عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر و التي ربما تمنعها من ممارسة نشاطها السياسي المباشر بفعل العوائق التي تضعها هيئة الانتخابات برئاسة السيد فاروق بوعسكر المحسوب على الرئيس قيس سعيد و هذا الأخير يرى فيه الكثيرون الشخص الذي يعارض ضمنيا تقدم عديد الشخصيات للانتخابات لأسباب مختلفة تدعو إلى كثير من النقاش.
تغيّر آراء الناخبين المزاجية
يجمع المتابعون أن بعض عمليات سبر الآراء – و ليس كلها – موجهة و ذات أجندات مشبوهة و هي تستغل تغيّر آراء الناخبين المزاجية و التي لوّثها الإعلام المدفوع الأجر و بعض المحللين الذين احتلوا بلاتوهات الإعلام الذين يعلم الجميع كونهم محسوبين على جهة معينة باتت اليوم تتحكم في التلفزيون الحكومي الذي يراد له أن يتحول إلى بوق تسويقي يخدم تلك الجهة على حساب الديمقراطية و في ضرب واضح مباشر لما تم تسويقه من كونه تلفزيون الشعب الذي تقتطع مصادر تمويله من أمواله غصبا.
مع ذلك يتساءل الكثيرون باستغراب كيف تفرز استطلاعات الرأي ترتيبا تفاضليا يكون فيه السيدان الصافي سعيد و المنذر الزنايدي الذان لا يملكان قاعدة حزبية جماهيرية واضحة و مواقفهما المشبوهة لطالما شكلت مادة للنقاش و السخرية و التساؤل أسبق من السيدة عبير موسي التي يشكل المنتسبون إلى حزبها رقما صعبا يؤرق السلطة الحاكمة و يدفعها إلى مصادرة حقها في التظاهر الحزبي على خلاف بقية “الأحزاب” الكرتونية الأخرى.
لعل خوف المتابعين اليوم حول ما إذا كان اختفاء مؤسسات الاستطلاع الجادة أمر قد دبّر بليل و أن هذه المؤسسات ستخرج في الوقت المناسب خاصة مع تأكيد موعد الانتخابات الرئاسية في بداية شهر أكتوبر القادم لتطرح أسماء جديدة من باب تشتيت الأصوات الانتخابية و فرض حالة من الارتباك الذي سيكون للمال السياسي دور كبير و فاعل فيها خاصة في ظل التدهور غير المسبوق للقدرة الشرائية للمواطن التونسي الذي اعتبر دائما أن الانتخابات هي إحدى الفرص الثمينة للحصول على الأموال لشراء الذمة الانتخابية.
كاتب و ناشط سياسي.